فى عام 1861 عندما تبوأ إبراهام لنكولن الرئاسة الأمريكية حدث انشقاق كبير فى الولايات المتحدة إذ انسحبت من الاتحاد سبع ولايات وهددت ثمانى ولايات أخرى بالانسحاب أيضا.
يومها نزلت أنباء الانشقاق على بريطانيا بردا وسلاما، وعبّرت صحيفة التايمز عن مشاعر هذا الارتياح مستهزئة بالاتحاد الأمريكى وبقدرته فى أى وقت على أن يصبح قوة منافسة للإمبراطورية البريطانية.
ولكن التبعية البريطانية اليوم للولايات المتحدة تشير إلى أن ما كان يبدو مستحيلا أصبح حقيقة واقعة. فالدول، كالأشخاص، حسب نظرية ابن خلدون، تولد، وتشبّ ثم تشيخ وتموت.
للشاعر البريطانى الشهير روديارد كيبلنج قصيدة عنوانها «الدرس الذى لا ينتهى» تتمحور حول موضوع اعتداد بريطانيا بنفسها عندما كانت إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس. ويبدو أن الدرس لم ينته إلا بعد أن أصبحت دولة تابعة ــ للولايات المتحدة ــ لا تكاد الشمس تشرق عليها !..
ولأن الدول لا تتعلم من أخطاء ومن تجارب بعضها، فإن الولايات المتحدة تؤدى هى أيضا «الدرس الذى لا ينتهى». ففى عام 1898 سحقت القوات البريطانية الثورة المهدية فى السودان من دون أن تتكبد خسائر تذكر. إلا أنها سرعان ما وجدت نفسها بعد ثلاث سنوات فقط غارقة فى وحول «حرب البوير» فى أفريقيا الجنوبية حيث فقدت فى المعارك حوالى ثلاثمائة ألف جندى.
الكاتب الأمريكى بول كندى ــ أستاذ التاريخ فى جامعة يال ــ أبدى فى مقالة له تخوّفه من أن يكون الاجتياح الأمريكى لأفغانستان مشابها للاجتياح البريطانى للسودان قبل أكثر من مائة عام. أى مواجهة خصم ضعيف.. وتحقيق انتصار سريع يشجع على خوض حروب أخرى.. يكون ثمنها غاليا جدا.
والواقع أنه لو لم ينجح الرئيس باراك أوباما فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة ولو لم يقرر الانسحاب من العراق، لتحولت الحرب الأمريكية هناك إلى «حرب بوير» جديدة.
إن مقومات الاعتداد بالنفس متوافرة بكثافة لدى الولايات المتحدة. فعلى الرغم من أن عدد سكانها يقلّ عن خمسة بالمائة فقط من سكان العالم فانها تنتج ثلاثين بالمائة من الإنتاج العالمى وتنفق على التسلّح أكثر من أربعين بالمائة ما ينفقه العالم كله.
مع ذلك فإن الولايات المتحدة التى كانت حتى السنوات القليلة الماضية تجرى 45 بالمائة من عمليات الإنترنت، هبطت هذه النسبة إلى ما دون 29 بالمائة فقط. فيما ارتفعت النسبة فى آسيا إلى 31 بالمئة.
ويعتبر هذا المؤشر دليلا على الصورة التى يمكن أن تصل اليها الولايات المتحدة من خلال ممارسة «الدرس الذى لا ينتهى»!!.. ذلك أن الصين تقدمت فى نموّها على كوريا الجنوبية وأصبحت فى مستوى اليابان، بعد أن تجاوز دخلها القومى أربعين ألف مليار دولار.
ليس مستغربا أن يغيب هذا الدرس عن الإدارة الأمريكية المعتدة بكونها القوة العسكرية الأكبر فى تاريخ الإنسانية. تماما كما حدث مع بريطانيا فى العهد الفكتورى حيث سيطرت غطرسة القوة على قراراتها السياسية.
فكما سخرت بريطانيا فى عام 1861 من الولايات المتحدة الأمريكية فى مرحلة تكوّنها الأولى، فإن الولايات المتحدة تسخر اليوم من الاتحاد الأوروبى وهو يواجه الصعوبات المترتبة عن توسع إطار الاتحاد ليشمل دول أوروبا الشرقية.
وتجمع هذا الاتحاد الأوروبى عملة واحدة هى اليورو، علما بأن الدولار لم يصبح عملة معتمدة ومقبولة فى كل الولايات المتحدة إلا بعد مرور 73 عاما على قيام الدولة الأمريكية. كذلك يجمع الاتحاد الأوروبى مصرف مركزى واحد، علما بأن مثل هذا المصرف لم يقم فى الولايات المتحدة الأمريكية أيضا الا بعد مرور 124 عاما على إنشائها!!.
صحيح أنه لا تزال هناك تباينات عميقة بين الدول الأوروبية التى يتشكل منها الاتحاد، إلا أن المقارنة بين ما كانت عليه فى عام 1953 وما هى عليه الآن، تشير بوضوح إلى أن النظرة الاستعلائية الاميركية قد لا تعمر طويلا.
إن 25 دولة أوروبية لكل منها قوميتها ولغتها وتاريخها وعملتها الوطنية تسير اليوم بخطى حثيثة نحو التكامل السياسى والاقتصادى والعسكرى، مخلفة وراءها سجلات ضخمة من الحروب والصراعات الدامية التى استمرت زهاء الف عام؛ وقد تمكّنت هذه الدول من إعادة كتابة تاريخ أوروبى جديد وموحد ليتكامل مع وحدة العملة ومع وحدة البنك المركزى ووحدة السوق التجارية المفتوحة أمام حركة اليد العاملة ورءوس الاموال دون أى قيد.
حتى الولايات المتحدة نفسها التى استخفت بهذا الاتحاد وحاولت تدجينه واحتواءه، تستثمر شركاتها فيه ما مجموعه 6.5 مليار دولار.
تبقى بريطانيا، طائرا يغرد خارج هذا السرب الأوروبى. فالأنكلوسكسونية تجعل المسافة عبر الأطلسى نحو الولايات المتحدة أقصر من المسافة عبر المانش مع فرنسا. ولذلك لم تنضم بريطانيا إلى اليورو، ولن تنضم فى المستقبل المنظور.. ولذلك أيضا ستبقى فرنسا وألمانيا المحور الأساس للاتحاد الأوروبى سياسيا (باعتبار أنهما مفتاحا الحرب أو السلام فى أوروبا) واقتصاديا (باعتبار أن ناتجهما الوطنى يشكل وحده نصف الناتج القومى للمجموعة الأوروبية كلها).
لقد كان الصراع الفرنسى البريطانى أحد الأسباب الرئيسية وراء الدعم الذى قدمته فرنسا إلى الولايات المتحدة حتى تمكّنت من التحرر والاستقلال عن بريطانيا. وقد جسدت ذلك فى صناعة تمثال الحرية وتقديمه هدية من الشعب الفرنسى إلى الشعب الأمريكى. ولا يزال هذا التمثال قائما فى جزيرة صغيرة أمام مدخل مدينة نيويورك حيث يشكل أحد أهم معالمها.
بتاريخ الثلاثين من أبريل 1803 اشترت الولايات المتحدة من فرنسا قطعة من الأرض الأمريكية التى كانت تحتلّها تبلغ مساحتها 2 مليون و14 ألف كيلومتر مربع. وقد دفعت الحكومة الأمريكية الفتية فى ذلك الوقت، ثمن هذه الأرض التى تُعرف باسم ولاية لويزيانا 15 مليون دولار فقط. (وهو ما يعادل اليوم ثمن مبنى تجارى واحد فى وسط مدينة من مدنها العديدة المزدهرة).
حملت هذه الصفقة الأهم فى تاريخ قيام الولايات المتحدة توقيعَىْ كل من نابليون بونابرت والرئيس الأمريكى توماس جيفرسون.
لقد وقفت فرنسا إلى جانب الولايات المتحدة منذ أن كانت برعما صغيرا يكافح ضد الاحتلال البريطانى إلى أن تمكّنت من الاستقلال. وما صفقة لويزيانا سوى مظهر من مظاهر الدعم الفرنسى للولايات المتحدة فى وجه بريطانيا التى كانت تُعتبر فى ذلك الوقت العدو المشترك للأمريكيين وللفرنسيين معا.
ولذلك يعتبر المؤرخ الأمريكى برنادر دى فوتو تلك الصفقة فى بعدها السياسى، الحدث الأهم فى التاريخ الأمريكى، وهى تحتلّ عنده الأولوية حتى على اعلان الاستقلال وعلى التوقيع على الدستور الاتحادى الأول.
ولكن بتاريخ الثلاثين من أبريل 2003 وعلى خلفية معارضة فرنسا للحرب الأمريكية على العراق ــ وصلت الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وفرنسا إلى الخط الأحمر. حتى إن جريدة لوموند نشرت سيناريو لحرب أمريكية محتملة على فرنسا. وقد فرضت واشنطن مقاطعة على البضائع الفرنسية وخصوصا منتجات الأجبان والمشروبات الكحولية والعطور والملابس أدّت إلى انخفاض حاد فى حجم التبادل التجارى بين الدولتين. وهكذا فإن الغزل السياسى الذى كان قائما بين جيفرسون ونابليون تحول إلى عواصف متتالية من الغضب ــ وحتى من الكراهية المتبادلة ــ بين جورج بوش وجاك شيراك. وقد جاء نيكولا ساركوزى ليعيد تصحيح الصورة مع باراك أوباما.
قبل 200 عام امتدح الرئيس الأمريكى جيفرسون الفرنسيين فى رسالة لا تزال محفوظة فى متحف لويزيانا حتى اليوم، قال فيها: «إن الفرنسيين مهذبون ويحسنون إلى الغرباء بصورة لا مثيل لها، ثم إن كرم الضيافة الذى تمتاز به باريس يتجاوز كل ما يمكن تصوره فى أى مدينة كبيرة أخرى. أن تفوقهم فى العلوم وتهذيبهم وعذوبة الحديث معهم يعطى مجتمعهم صفات لا مثيل لها فى أى مكان آخر».
غير أن الأمريكيين فى عهد الرئيس السابق جورج بوش تهكموا على أحفاد نابليون بأنهم «أكلة الجبنة الذين يستسلمون كالقردة». حتى إن وزير الخارجية الأسبق كولن باول لم يتردد فى المطالبة بمعاقبة فرنسا بسبب موقفها المعارض للحرب على العراق.
أما الفرنسيون فقد وجهوا فى ذلك الوقت جام غضبهم إلى الرئيس الأمريكى جورج بوش ووصفوه بأنه «راعى البقر الربانى الكريه» كما ورد فى عنوان مسرحية للكاتب الفرنسى الساخر ايتيليو ماجيولى. وكانت هذه المسرحية قد عرضت فى أحد مسارح العاصمة الفرنسية فى ذكرى صفقة لويزيانا، إلا أن تعرّض ماجيولى نفسه إلى اعتداء من «مجهولين»، أدى إلى وقف عرض المسرحية خوفا على حياة الممثلين وعلى سلامة رواد المسرح من حادث إجرامى مفتعل!!.
واليوم تمر العلاقات الفرنسية ــ الأمريكية فى شهر عسل جديد لا يُعرف ما إذا كان سيستمر بعد ساركوزى، إلا أن الأمر المستمر هو ما رآه الشاعر البريطانى كيبلنج قبل مائة عام عندما حذر من «الدرس الذى لا ينتهى».