يبدو أن ما يجرى فى سوريا لم يعد يحرك فينا ساكنا، على الرغم من بشاعته. وواضح أننا قد تعودنا على سماع أوصاف ونعوتٍ عن سوريا اليوم كانت كافية فى الماضى لأن تجعلنا ننتفض ونهب على الفور لنجدتها. أوصاف مثل تفتت سوريا، أو تمزقها، أو انحلالها، لم تعد تُثير فينا تلك النخوة مثلما كنا نفعل فى الماضى. أغفلنا فى غمرة الأحداث مدى ارتباط سوريا بمصر على مر العصور، وحقيقة أن أمن مصر القومى إنما يبدأ من الحدود السورية. أدرك المصريون القدماء تلك الحقيقة، وتمسكت بها كل الزعامات التى توالت على حكم مصر من بعد ذلك. وما بالنا نتناسى أن سوريا ومصر قد ارتبطتا بوحدة اندماجية منذ أقل من ستة عقود مضت، كما تحالفت الدولتان من أجل خوض حرب ضروس هى حرب أكتوبر المجيدة، وذلك منذ أقل من أربعة عقود. هل أعيتنا الحيل، أم أنه لم يعد فى مقدور أحد احتواء الموقف، ووقف النزيف، وإنقاذ هذا البلد بتاريخه العريق، وبكل ما قدمه للحضارة الإنسانية، من الدمار؟
•••
وحتى نستطيع الإجابة عن كل هذه التساؤلات، لابد لنا أولا أن نحلل وبشكل موضوعى مواقف الأطراف التى ترتبط، بشكل أو آخر، بما يجرى على الساحة السورية. فإذا نحن بدأنا بروسيا الاتحادية، نجد أن لديها ارتباطات واسعة بهذا البلد، سياسية، واقتصادية، وعسكرية، واستراتيجية. لا تريد روسيا بالطبع أن تفقد ما تتمتع به حاليا من امتيازات، وهى غير واثقة من أن أى نظام جديد سيمنحها من الأفضليات ما تحظى به حاليا فى ظل بشار الأسد. ثم إن روسيا تشفق على نفسها ولا شك من ذلك المدّ الجهادى الذى أصبح يجد فى سوريا مرتعا خصبا له، وله من خطوط الاتصال ما يربطه بتنظيمات مماثلة إما كامنة أو نشطة فى العمق الروسى ذاته. أضف إلى ذلك أنه لو قُدّر للولايات المتحدة أو حلف الناتو، أن يكون لهما موطئ قدم على الأرض السورية، أفلا يعنى ذلك جورا على مناطق النفوذ الروسية فى الشرق الأوسط، وحرمانا لموسكو من الوصول إلى المياه الدافئة، واقترابا أكثر، وربما تهديدا للأراضى الروسية ذاتها؟
•••
وإذا ما نحن انتقلنا من ذلك إلى موقف الولايات المتحدة سنجد أن هواجسها لا تقل فى خطورتها عن الهواجس الروسية. فإذا كان الرئيس أوباما بشر الشعب الأمريكى الآن بأن عقدا كاملا من الحروب قد وَلّى. سواء التى خاضتها أمريكا فى العراق، أو أفغانستان، أو إلى حد ما ليبيا، فهل يُتصور أن تقدم الولايات المتحدة على تدخل عسكرى جديد فى المنطقة؟ حتى وإن اكتفت الولايات المتحدة بتقديم السلاح، فيا تُرى من سيكون ذلك الفصيل المحظوظ الذى سيتلقى مثل هذا الدعم العسكرى؟ وما هى الضمانات ضد قيام هذا الفصيل باقتسام ذلك المدد مع رفاق السلاح الآخرين من الفصائل الجهادية العاملة على الساحة السورية، والتى لا تُخفى عداءها للولايات المتحدة والغرب عموما؟ وألا يدفع التدخل العسكرى الخارجى أطرافا إقليمية إلى أن تُدلى بدلوها أو تصطاد فى الماء العكر، فتتسع رقعة النزاع بدلا من أن يتم احتواؤه؟ والواقع أن الرئيس أوباما قد طرح حزمة من مثل هذه التساؤلات فى حديث أدلى به مؤخرا إلى مجلة New Republic وتركها دون إجابة. تساءل أوباما عن أين ومتى تستطيع الولايات المتحدة أن تتدخل بالشكل الذى يحقق لها مصالحها ويحافظ على أمنها؟ تساءل أيضا عن المدى الذى يمكن أن تذهب إليه الولايات المتحدة فى تحركاتها، إن هى قررت ذلك بالفعل، وكيف سيؤثر هذا التدخل على ما هو جارٍ على أرض الواقع. ولم يفت أوباما أن يتساءل أيضا عن أثر أى تدخل فى سوريا على قدرة أمريكا على الوفاء بالتزاماتها فى مناطق أخرى من العالم، وما إذا كان ذلك التدخل يمكن أن يؤدى إلى اندلاع المزيد من أعمال العنف، أو الالتجاء إلى استخدام أسلحة الدمار الشامل (فى إشارة بالطبع إلى ما تملكه سوريا من أسلحة كيميائية وأخرى جرثومية). واختتم أوباما قائمة تساؤلاته بالاستفهام عن شكل ذلك النظام الجديد الذى يمكن أن يوفر الاستقرار لسوريا بعد زوال نظام الأسد؟
•••
تساؤلات كلها مشروعة بالطبع من وجهة النظر الأمريكية، ومشروعة أيضا تلك التساؤلات التى تدور فى الذهن الروسى، والتى سبق أن استعرضنا بعضها. وتكشف هذه التساؤلات، الروسية منها أو الأمريكية، عن حجم المعضلة التى تواجه حتى الدول الكبرى فى تعاملها مع الوضع السورى. غير أن بارقة الأمل الوحيدة، من وجهة نظرى، أن الدولتين العظميين إنما تلتقى مصلحتهما حول أهمية وضع نهاية سريعة للصراع القائم، إذ إن استمرار النزاع يعنى تقوية شوكة العناصر المتطرفة التى تنشط حاليا على الساحة السورية والتى لا تستثنى أيا منهما فى توجيه سهامها، وتقويض مصالحه.
•••
ومن هذا المنطلق، وأعنى بذلك تلاقى المصلحتين الروسية والأمريكية حول أهمية وقف القتال، تمهيدا للانخراط فى حوار من أجل التوصل إلى حل سياسى، يمكن تصور حدوث انفراجه فى المأزق الحالى. وهنا أعيد إلى الأذهان قيام القيادة السوفييتية بدعوة مستشار الأمن القومى الأمريكى هنرى كيسنجر لزيارة عاجلة لموسكو للبحث فى وقف إطلاق النار، وإيقاف العمليات العسكرية التى بدأت يوم 6 أكتوبر 1973. اتفقت الدولتان فى هذه الزيارة على التقدم بمشروع قرار إلى مجلس الأمن لوقف القتال تمهيدا لبدء المفاوضات تحت الإشراف المناسب، وهو القرار 338 فى 22 أكتوبر 1973. التقت إرادتا الدولتين حينئذ على ضرورة وضع حدٍ للاقتتال الذى كان دائرا والامتناع عن إطلاق النار من أى جانب، والتوجه نحو التسوية السلمية. تم هذا بالرغم من تناقض مصالحهما وتحالفاتهما مع هذا الطرف أو ذاك، طوال فترة الحرب.
•••
ألا تستطيع الدولتان ــ روسيا وأمريكا ــ الاتفاق على إجراء مماثل لما اتبع يوم 22 أكتوبر 1973 وذلك بالدعوة ــ من خلال مجلس الأمن ــ إلى صدور قرار ملزم وفورى لوقف إطلاق النار من قبل كل من الأطراف المتصارعة، وعلى أن يبدأ بعد ذلك، وعلى الفور الحوار من أجل التوصل إلى حل سلمى يحقق تطلعات الشعب السورى.
•••
عارض الاتحاد السوفييتى منذ بداية الأزمة السورية صدور قرار من مجلس الأمن، واستخدم فى ذلك حق الفيتو ثلاث مرات لإحباط قرارات فى هذا الشأن. غير أن ما أعرضه الآن إنما يختلف تماما عن مقاصد مشاريع القرارات السابقة التى أحبطها الروس، والتى كانت تفتح الباب أمام التدخل الخارجى بشكل أو بآخر (مثلما حدث فى ليبيا). إذن الغرض من الجهد المشترك الروسى الأمريكى المطلوب لن يكون التدخل الخارجى أو الإمداد بالسلاح، بل وقف إطلاق النار والبدء فى الحوار السياسى من أجل التوصل إلى حل سلمى للأزمة. الحل ليس فى إطالة القتال إنما فى إيقافه.
•••
أتفهم تماما التردد الذى يبديه الائتلاف الوطنى السورى حيال المشاركة فى مؤتمر جديد لأصدقاء سوريا من المقرر عقده فى روما، وذلك بسبب ما وصفه الائتلاف بـ«الموقف الدولى المخزى» تجاه الجرائم المرتكبة فى سوريا.
فالأمر الآن لا يحتاج إلى مؤتمرات من أجل التقاط الصور التذكارية، الأمر فى حاجة إلى قرار دولى ملزم بوقف إطلاق النار وبدء العملية السياسية التى تستجيب لمطالب الشعب السورى. وأعتقد أن مصالح الدولتين العظميين ــ روسيا وأمريكا ــ إنما تلتقى تماما حول هذين الهدفين النبيلين.
مساعد وزير الخارجية الأسبق للشئون الأمريكية