الرئيس الأمريكى جيمى كارتر، الذى يحظى بمكانة خاصة فى منطقتنا والعالم بأسره. نشر يوم 14 فبراير الماضى تقريرا يحمل العنوان «الربيع العربى لا يزال حيا». من بين ما حاول ذلك التقرير أن يؤكد عليه هى أن جذوة الثورات فى بلاد الربيع العربى، خاصة فى مصر وليبيا وتونس، لم تنطفئ، كما يحلو للبعض أن يدعى بخلاف ذلك.
كان كارتر قاسيا على مصر عندما تحدث عن المسار الانتقالى فيها، ربما كان ذلك من فرط العشم أو التخوف، بعد الجهد والوقت اللذين لم يبخل بهما على مصر طوال فترة حكمه. غير أن موقف كارتر هذا ليس هو بيت القصيد فيما أود أن أشير إليه، ولا حتى تلك المقارنة التى عقدها بين ما جرى فى مصر، والتطور الذى حدث فى تونس، الذى اعتبر أنه جاء متناقضا تماما لما جرى فى كل من مصر وليبيا. ما أود أن أبرزه هنا ما قاله بكل وضوح وثقة، واتفق معه تماما فيما قاله، من ان العملية الديمقراطية إنما تحتاج إلى الصبر. التحلى بالصبر ربما يكون المفتاح لضمان التمسك بالسير على الطريق الصحيح. ثم يتحدث كارتر عن أهمية تحقيق التوازن السليم بين المقومات التى يجب أن تستند عليها المراحل الانتقالية، وبالذات فى دول الربيع العربى. يقول كارتر انه يجب البحث عن التوازن الضرورى بين الحفاظ على النظام من ناحية، وبين تحقيق العدالة من ناحية أخرى وبين التوجه العلمانى والتوجه الدينى، وأيضا بين ضمان الحرية، وضرورة تحقيق العدل، وأخيرا بين ضمان مشاركة الجميع، وبين كبح جماح التطرف. قواعد جميلة يا حبذا لو كنا قد تحلينا بها لتجنبنا الكثير من الذلل. ثم يختتم كارتر تقريره بالتأكيد على أن ما تحتاجه دول الربيع العربى هو وجود مؤسسات قوية، وليس وجود رجال أشداء، لأن هذا ما أوضحته تجارب الأمم الأخرى، التى أمكنها تحقيق ما تنشده من ديمقراطية.
•••
لم يتعرض كارتر إلى المشكلات الاقتصادية التى تثقل كاهل دول الربيع العربى، غير أنى أعتقد إن المشكلات الاقتصادية إنما تقف على نفس المصاف من الأهمية مع المشكلات السياسية، بل إن التأثير المتبادل بينهم جلى وواضح.
الأرقام التى سأذكرها هى نقلا عن أحدث تقرير صادر عن وزارة التخطيط المصرية:
1ــ تزايد العجز الكلى للموازنة العامة للدولة للعام المالى 2012/2013 ليصل إلى حوالى 240 مليار جنيه، يمثل نحو 14٪ من الناتج المحلى الإجمالى.
2 ــ شهد الاقتصاد المصرى ارتفاعا كبيرا فى حجم الدين المحلى، وذلك من 808.4 مليار جنيه عام 2010 (يمثل 67٪ من الناتج المحلى الإجمالى)، ليصل فى 30 يوليو 2013 إلى 1446.6 مليار جنيه (يمثل 83٪ من الناتج المحلى الإجمالى).
3ــ ارتفع حجم الدين الخارجى ليصل إلى 46.8 مليار دولار فى يونيو 2013، مقارنة بـ33.7 مليار دولار فى يونيو 2010.
4ــ ارتفع حجر الميزان التجارى بشكل حاد ليصل إلى 57.5 مليار دولار فى نهاية يونيو 2013، وتحول فائض ميزان المدفوعات، إلى عجز بلغ 11 مليار دولار عام 2011/2012.
5ــ ارتفع أيضا معدل التضخم خلال يوليو 2013 ليصل إلى 10.3٪ مقارنة بما يقرب من 6.4٪ خلال شهر يونيو 2012.
6ــ ارتفع معدل البطالة ليتجاوز 13٪ مقارنة بأقل من 9٪ قبل خمس سنوات.
7ــ وأخيرا فقد ارتفع معدل الفقر ليتجاوز 25٪ من جملة السكان عام 2010/2011، مقارنة بأقل من 17٪ فى بداية الألفية الثالثة. (تصل نسبة الفقر فى بعض قرى الصعيد إلى 80٪).
•••
الأرقام السابقة صادمة تماما، وأملى ان تحدث الأثر المطلوب أو الصدمة الضرورية، فلا نعيش فى أحلام، أو نتعلق بأوهام، أو نطالب بما لا يستطاع.
وأؤمن يقينا أن أهم أسباب معاناتنا الحالية إنما ترجع بالأساس إلى ما ننفقه على الدعم من اعتمادات ضخمة على حساب ضروريات أخرى. كل المشكلات سواء عجز الموازنة، أو حجم الدين الداخلى والخارجى، إنما ترجع فى الواقع إلى الأرقام المفزعة لما يصرف على الدعم، الذى أصبح الآن مثل البقرة المقدسة، التى لا يستطيع أحد أن يمسها أو يقترب منها. والأمر الغريب أنه بالرغم من الازدياد المطرد فى هذا الدعم، فإن نسبة الفقر فى ازدياد يعنى هذا أن الدعم لا يذهب إلى مستحقيه، بل يؤدى إلى حرمان السواد الأعظم فى الشعب من الخدمات الأساسية، سواء فى الصحة، أو التعليم، أو تحسين وسائل وطرق المواصلات أو غير ذلك!
هل يعلم القارئ الفاضل أن ما ننفقه على قطاع الصحة لا يزيد على 2٪ من الناتج المحلى الإجمالى، وما ننفقه من التعليم لا يتجاوز 3.6٪ وذلك الناتج فى حين أن دعم الطاقة وحده يبلغ 10٪ من الناتج المحلى الإجمالى، ثم تلوك ألسنتنا حسرة على تفشى الأمراض وتدهور مستوى التعليم!
من الأقوال المأثورة عن أمير المؤمنين على بن أبى طالب كرم الله وجهه قوله إن «الناس من خوف الذل فى ذل، ومن خوف الفقر فى فقر»، ما قاله على رضى الله عنه هو أصدق تعبير عن حالنا الآن. نخشى أن نمسَ ما يُهدر على الدعم من أموال خشية إملاق أو فقر، فإذا بنا نعيش فى هذا الفقر، بل وتزيد نسبته عاما بعد عام. والهوة التى تفصل بين الفقير والغنى تتسع وتتعاظم.
•••
والواقع إن الانفاق على الدعم لا يؤدى فقط إلى توجهه إلى من لا يستحقه، ولكنه يتسبب فى مجموعة من المشكلات والمخاطر الجسام:
1ــ الدعم، وبالتالى تسعير المنتجات بأقل من تكلفتها الفعلية، يؤدى إلى الإسراف فى استخدامها. ما دام لتر البنزين يباع بدراهم معدودات، بسبب الدعم السخى وغير المبرر الذى توجه الحكومة إلى هذه السلعة، فلماذا لا تملك العائلة الواحدة أكثر من سيارة، ولماذا لا تستخدم السيارة حيث لا يوجد ما يدعو إلى استخدامها فى الأساس. إذن فتسعير البنزين والمازوت والغاز الطبيعى بالقيمة الحقيقية الفعلية سيؤدى، وبشكل تلقائى إلى خفض الاستهلاك.
كانت مصر تعد ثالث دولة فى أفريقيا من حيث وجود احتياطى الغاز الطبيعى بها. كنا نصدر إلى أوروبا وآسيا، بالإضافة إلى خطوط أنابيب للدول المجاورة، الآن انخفض التصدير إلى النصف، وانخفاض ما يتم تصديره عبر الأنابيب إلى مجرد 10٪. السبب الرئيسى فى كل ذلك يرجع إلى زيادة الاستهلاك المحلى بسبب تدنى الأسعار عن الأسعار العالمية. وبصراحة شديدة مثل تلك السياسة لا يمكن.. الاستمرار فيها بأى شكل من الأشكال. فلا الموارد تسمح بذلك، ولا الحاجة تُملى ذلك!
2 ــ الأمر الثانى الذى تؤدى إليه تلك الأسعار المتدنية عن التكاليف الفعلية هو تفشى ظاهرة عدم الكفاءة فى الإنتاج، وفى الفاقد الضخم المهدر من تلك المنتجات.
3ــ والنتيجة الثالثة هى فى انتشار عمليات تهريب المنتجات البترولية إلى خارج الحدود بسبب تدنى أسعارها عن الأسعار السائدة فى البلدان المجاورة.
4ــ والأخطر من كل ذلك هو عدم وصول الدعم لمستحقيه بل أثبت الإحصاءات إن الطبقة الميسورة هى المستفيدة الكبرى من الأسعار المدعمة، الأمر الذى ينعكس فى إسرافها غير المبرر فى الاستهلاك.
•••
ليست مصر هى الدولة الوحيدة التى تعانى من إرث هذا الدعم المتخلف عن العصر، لكنها تأخرت كثيرا عن دول أخرى واجهت هذه المشكلة بحلول جسورة، أثبتت نجاحها وفاعليتها. ضربت إيران المثل فى هذا الشأن بعد ان كانت فاتورة الدعم فيها تصل إلى 120 مليار دولار سنويا أو ما يعادل 30٪ من الناتج المحلى الإجمالى! بناء على قانون أصدره البرلمان فى ديسمبر 2010 ثم رفع الدعم، وبالتالى ارتفعت أسعار عدد كبير من السلع وبنسب عالية للغاية، فمثلا ارتفعت أسعار البنزين بنسبة 300% وأسعار الديزل بنسبة من 800٪ إلى 2000٪، كما تم رفع أسعار الكهرباء ودقيق الخبز وتذاكر السفر. وتستهدف هذه الإجراءات الوصول بأسعار السلع إلى الأسعار العالمية خلال فترة معينة. وفى مقابل رفع الأسعار تقرر تقديم دعم نقدى لكل فرد من أفراد الأسرة بما يعادل 45 دولارا أمريكيا شهريا للفرد الواحد.
سبق تطبيق النظام الجديد حملة توعية واسعة لطوائف الشعب كشفت عن مدى الخلل والقصور فى نظام الدعم القديم، وميزات وفوائد النظام الجديد.
المهم إن الشعب تقبل النظام الجديد قبولا حسنا، وانخفض استهلاك المواد البترولية بنسبة 5.6 فى السنة الأولى بعد تطبيق النظام الجديد، واستهلاك الكهرباء انخفض بنسبة 8٪، كما انخفض استهلاك دقيق الخبر بنسبة 22٪، وانخفضت كميات المواد، التى كان يتم تهريبها للخارج بنسبة عالية.
•••
إذا ما توفرت الإرادة، فإن الحلول الناجعة ستكون أقرب إلينا من حبل الوريد. علينا اذن ان نتخذ القرار ونتحلى بالشجاعة فى وضعه موضع التنفيذ، وذلك فى ظل حملة توعية تكشف مساوئ النظام القديم وتبشر بمزايا النظام المستحدث. أثبت الشعب المصرى خلال تاريخه الممتد استعداده للتضحية وتحمل آثار التقشف وقت الحاجة، ولن تكون هذه هى المرة الأولى التى نطلب فيها من الشعب «شد الحزام» فى مواجهة الأزمات، ولن تكون هذه هى المرة الأولى، التى يستجيب فيها الشعب لمثل ذلك النداء.
وعلى الله قصد السبيل