نغمة نشاذ للأسف بدأنا فى سماعها، وصادرة بإصرار عن القوى الكبرى فيما يتعلق بوضع الأسد. لا تمجد هذه النغمة الأسد بالطبع، أو تبرر جرائمه، إنما تعتبره أهون ضررين على سوريا، ضرر بقائه، وضرر سقوط البلاد فى قبضة الإرهاب. الأسد هو منبع الشر، إنما البديل يتفوق عليه فى شروره وآثامه. ذلك هو منطق القوى الكبرى كما يبدو حاليا. لماذا لا نترك الأسد ليخوض المعارك ضد المتطرفين والجهاديين؟ ألا يحسن أن ننظر إليه كحليف وليس كعدو؟ هل يمكن أن نترك الأمور للإرهاب كى يتنقل عبر الحدود، تارة إلى لبنان، وتارة أخرى يعود بكل عنف إلى العراق؟
•••
تتمادى هذه الدوائر الغربية والشرقية على حد سواء فى «تلميع» الأسد. تقول: «أولم يثبت الأسد قدرة على البقاء والصمود فى وجه المعارضة بمختلف أطيافها، وبناء على ذلك ألا يستطيع الأسد إيجاد نوع فى الاستقرار الجزئى فى مناطق عدة من الوطن السورى؟ الأسد قدم بالفعل كل المسوغات اللازمة لقبوله كشريك فى المرحلة الحالية من التاريخ السورى. ولم يتنازل عن ترسانته الكيميائية الضخمة التى هى أهم أسلحة الردع لديه؟ أو لم يف الأسد بالتزاماته فى هذا الخصوص بكل إخلاص حتى لم يبقَ على اتمام عملية تدمير ذلك السلاح إلا أشهر معدودات؟ ثم انظر إلى كيفية تعامل الأسد مع إسرائيل. لم يطلق طلقة واحدة فى اتجاه الجولان المحتل منذ أن وقع اتفاقية فض الاشتباك. غض الطرف عن كل هجمات إسرائيل المتكررة على سوريا، المرة التى دمرت فيها ما ادعت أنه مفاعل نووى قيد الإنشاء، ومرات أخرى عندما هاجمت قوافل ادعت انها تنقل السلاح إلى حزب الله الرجل سجله ناصع البياض فى كل هذه الشئون، ليس هناك من شائبة على تصرفاته، اللهم إلا ارتكابه المجازر فى حق شعبه، إنما تلك قضية أخرى!
بدأ الحديث أيضا عن إجراءات لبناء الثقة قد يقبل بها الأسد، مثل وقف لإطلاق النار فى مناطق معينة، وربما تبادل للأسرى والسجناء، ثم السماح لقوافل الإغاثة أن تصل إلى المحتاجين، بعد أن تسمح سوريا بكسر الحصار المفروض على هذه المناطق.
•••
لنساير هذه التحليلات لبعض الوقت حتى نتعرف على النتائج التى تسعى إليها. سفير الولايات المتحدة السابق فى سوريا ريان كروكر (وكان سفيرا لبلاده أيضا فى كل من العراق ولبنان والكويت وأفغانستان)، كتب مقالا مهما فى صحيفة النيويورك تايمز مؤخرا. المقال على قصره، كاشف تماما عما يدور فى ذهن الإدارة الأمريكية حاليا (وان لم يعد السفير رسميا من أعضائها)، يقول كروكر: «إن الوقت قد حان لكى ننظر إلى مستقبل سوريا مع وجود الأسد ودون رحيله، لأن ذلك هو ما سيحدث على الأغلب. إن إعلان الرئيس الأمريكى أوباما عام 2011 بأن على الأسد أن يرحل، يشكل انتهاكا لأحد المبادئ الأساسية فى الشئون الدولية، لأنه إذا كان عليك أن ترسم سياسة خارجية، فعليك أولا أن تتأكد من امتلاكك الوسائل التى يمكنك عن طريقها تحقيق الأهداف المتوخاة من هذه السياسة. وفى الواقع أن الولايات المتحدة لا تملك هذه الوسائل». يستطرد كروكر فى مقال فيقول: «إننا قد أسأنا تقدير قدرة الأسد على البقاء، ويجب علينا أن نتقبل حقيقة انه ليس فى سبيله إلى التنازل عن السلطة، علينا أيضا أن نسلم بأن البديل عن وجود الأسد هو سقوط دولة عربية كبرى فى براثن تنظيم القاعدة». ثم يذكر السفير وهو بالقطع على اطلاع بالأوضاع فى سوريا ان النظام العلوى استطاع على امتداد ثلاثة عقود انشاء أجهزة الأمن، والجيش، والمخابرات التى استطاع عن طريقها النظام الصمود فى وجه كل التحديات. هذه الأجهزة (التى خرجت من رحم النظام) ليس من المتصور على الإطلاق ان تنقلب على ذلك النظام، لأنها ستكون بذلك قد حكمت على نفسها بالفناء». ثم يختتم كروكر مقاله (الكاشف للمستور) بالقول «بأن الأسد يمتلك جيشا قويا ومنضبطا، كما يتلقى المساعدات من أطراف عدة، وبالتالى فإن الأسد لن يرحل بل سيحاول استرداد المواقع التى فقدها على الساحة السورية. لذلك علينا أن نتقبل سوريا المستقبل مع وجود الأسد. وبالرغم من مساوئه، فإن هناك من يتفوق عليه فى السوء. وعلى أمريكا أن تدخل فى حوار هادئ مع المسئولين السوريين فى مؤتمر جنيف». لم تنتظر المخابرات الغربية انعقاد ذلك المؤتمر بل بعثت بوفود إلى سوريا بالفعل للتباحث مع المسئولين السوريين، كما صرح بذلك نائب وزير الخارجية السورى. وواضح أن قضية الإرهاب اضحت تضج مضاجع الغرب، ولعل النظام السورى هو من ينفخ فى الكير من أجل تضخيم القضية.
لا أتصور أنها مجرد صدفة ان يقوم جوشوا لانديز وهو رئيس مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة أوكلاهوما بنشر مقال فى نفس تاريخ مقال كروكر يؤكد فيه أن الولايات المتحدة لا تملك أية خيارات ناجعة للتعامل مع الأزمة السورية، فيما عدا السعى إلى وقف إطلاق نار شامل هناك يتضمن توقف جميع الأطراف الضالعة فى النزاع السورى عن إرسال السلاح والعتاد إلى كل الجهات التى تقوم بتحريكها على الساحة السورية.
<<<
هذا بالنسبة للولايات المتحدة، فما بال روسيا الاتحادية؟ تعتقد روسيا وفقا للمحللين فى موسكو أن مؤتمر جنيف، لن يشكل سوى بداية لعملية سياسية طويلة الأمد، وان الهدف من المؤتمر هو مجرد جمع أطراف النزاع مع بعضهم البعض، والإبقاء عليهم هناك لتستمر المفاوضات دون انقطاع. والأمر المهم الذى يشير إليه المحللون أن روسيا تضع قضية الإرهاب على رأس جدول أعمال المؤتمر، حيث تعتقد ان التفجيرات الأخيرة التى جرت فى جنوب روسيا إنما تربط بشكل مباشر أو غير مباشر بالعمليات القتالية فى سوريا. ويقدر الروس أعداد المجاهدين القادمين من الشيشان إلى سوريا بما يتجاوز المئات، وأن هؤلاء، إلى جانب القادمين من دول أوروبية عديدة ومن الولايات المتحدة، لن يترددوا فى توجيه فوهات مدافعهم نحو أهداف أخرى فى روسيا والولايات المتحدة وأوروبا، فى الوقت الذى يرونه مناسبا. الجدير بالذكر أن المخابرات الأمريكية والأوروبية تقدر عدد مواطنيها الذين غادروا إلى سوريا للانضمام إلى المقاومة بنحو 1200 مقاتل منهم 700 شخص من فرنسا وحدها و240 من ألمانيا و70 من الولايات المتحدة.
•••
كان من أهم الأهداف التى سعى إليها مؤتمر أصدقاء سوريا الذى انعقاد فى باريس يوم 12 يناير الحالى حث المعارضة السورية على حضور مؤتمر جنيف، الذى انعقد يوم 22 الحالى، وكذلك التأكيد على أهمية قيام هذه التعارض بتوحيد صفوفها من أجل المشاركة بالمصداقية اللازمة فى المؤتمر. وحمل البيان الصادر عن اجتماع أصدقاء سوريا ما يطمئن المعارضة إلى جدوى مشاركتها المؤتمر، حيث أشار البيان إلى ان الأسد لن يكون له دور فى سوريا المستقبل. غير أن الظروف التى طالب الاجتماع بتوافرها لتحقيق هدف ابعاد الأسد عن المسرح تبدو وكأنها من أحلام اليقظة، حيث يقول البيان بالحرف الواحد إنه «إذا ما تم تأسيس كيان حكومى انتقالى يكون له السيطرة على جميع مؤسسات الدولة، بما فى ذلك القوات المسلحة، وأجهزة الأمن، والمخابرات، فإن الأسد وحلفائه المقربين، الملطخة أياديهم بالدماء، لن يكون لهم دور يلعبونه فى سوريا». سبق أن أشرنا إلى أن كل هذه الأجهزة هى من صنع الأسد، الأب ثم الابن، ولا يبدو منطقيا أن تتحرر هذه الأجهزة من قبضة الأسد أثناء وجوده فى السلطة. مطلب أصدقاء سوريا يضع العربة أمام الحصان فى واقع الأمر!
•••
يقامر الغرب بالإبقاء على الأسد بالرغم من كل ما ارتكبه من جرائم، بدعوى قدرته على التصدى للجماعات الإرهابية، بل من يقول ومنهم تركيا أن الأسد هو المسئول عن نشأة بعض تلك الجماعات من أجل تبرير استمراره فى الحكم. والواقع أنه إذا كان الغرب، وبصفة خاصة الولايات المتحدة، على استعداد الآن لتقبل استمرار الأسد فى السلطة فإن أمريكا إنما تحاول إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، عندما كانت تدعم الأنظمة الديكتاتورية فى أمريكا اللاتينية وغيرها، من أجل التصدى للإرهاب. لم تستطع أمريكا الحفاظ على هذه الأنظمة، تماما مثلما فشلت هذه الأخيرة فى مهمتها فى القضاء على الإرهاب.