العرض من السلام.. والطلب عليه - إبراهيم عوض - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 8:28 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

العرض من السلام.. والطلب عليه

نشر فى : السبت 2 مارس 2024 - 9:30 م | آخر تحديث : السبت 2 مارس 2024 - 9:30 م
خرج رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو يوم 23 فبراير الماضى بخطته لحكم غزة بعد أن تنتهى الحرب التى تشنها إسرائيل عليها، وهى خطة امتدت فى جانب منها لتشمل الضفة الغربية لنهر الأردن. أهم ما فى الخطة، وهى مجموعة من المبادئ، هو أن إسرائيل تحتفظ لنفسها بحق فرض الأمن فى غزة بل وفى كل الأراضى الواقعة غربى نهر الأردن، أى بما فى ذلك فى الضفة الغربية نفسها، وهو حق يخولها الدخول إلى هذه الأراضى فى أى وقت شاءت.
فى هذه الخطة، إعادة البناء فى غزة لن تبدأ إلا بعد التخلص من أى طابع عسكرى فيها. أما حكم غزة فسيمارسه ممثلون محليون لا ينتمون إلى أى مجموعات أو دول إرهابية أو يتلقون تمويلا منها. أما الدولة الفلسطينية فالخطة ترفض الاعتراف بها من جانب واحد، وهى تنص على أن أى تسوية «مع الفلسطينيين» لا يمكن تحقيقها إلا بالمفاوضات المباشرة بين الطرفين. لتأكيد سيطرتها على الأمن فى غزة، تذهب الخطة إلى أنه لإسرائيل أن تكون موجودة فى جنوب القطاع وأن تتعاون مع مصر فى تأمين الحدود الفاصلة بين غزة وبينها، وإلى إنشاء مناطق عازلة عند هذه الحدود لدرء التهريب وأى هجمات جديدة. الخطة تنص أيضا على تنفيذ برنامج لتصفية التطرف فى عقول سكان غزة، وهو مبدأ يرتبط بمبدأ آخر هام فى الخطة ألا وهو تصفية وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين لتحل محلها هيئات دولية للمساعدة.
• • •
الخطة لاقت الانتقاد فى إسرائيل ذاتها، فلقد اعتبر بعض الإسرائيليين أنها مجرد مجموعة من الأفكار سبق وأن رفضها المجتمع الدولى، بل ورفضها بعض من أهم مساندى إسرائيل. الخطة معتلة المنطق فضلا عن أن جوهرها وشرط تنفيذها هو استمرار الاحتلال الإسرائيلى لقطاع غزة، والعودة لاحتلال الضفة الغربية التى نصت اتفاقية أوسلو على أن تتولى السلطة الفلسطينية الأمن فى المنطقة «أ» منها. دخول قوات دولة ما لأى أراض فى أى وقت شاءت ليس إلا احتلالا لهذه الأراضى. ربط إعادة البناء بتصفية أى وجود عسكرى فى غزة هو مبدأ يستدعى هو الآخر احتلال القطاع لتطبيقه، حتى تشرف سلطة الاحتلال على جمع السلاح من أيدى جماعات المقاومة، وهو مبدأ من المحال التحقق من تطبيقه، فالطابع العسكرى ليس سلاحا ولا لباسا عسكريا، بل هو نظام وانضباط واتصال واستعداد للعمل حتى وإن لم يرتد أعضاء التنظيم المعنى أى لباس عسكرى.
التعصب فى مقاومة فكرة الدولة الفلسطينية جعل صائغى الخطة يصيغون مبدأ هذه المقاومة بشكل يعدم المنطق. أى دولة يمكن إعلانها من جانب واحد أو بشكل جماعى، أما الاعتراف بها فلا يمكن إلا أن يكون من جانب كل دولة على حدة. ثم هل يمكن لإسرائيل أن تمنع أى دولة من الاعتراف بفلسطين كدولة، وهو ما أقدمت عليه بعض الدول بالفعل، وينتشر أن دولا أخرى فى سبيلها إليه؟ وقبل ما سبق، أين المنطق فى أن تمنع إسرائيل الشعب الفلسطينى من مجرد إعلان دولته، سواء كان لهذا الإعلان نتيجة ملموسة أو لم يكن؟ أما عن ممارسة مجموعات غير مرتبطة بأى تنظيم للمقاومة لإدارة غزة، فإنه ينبغى قراءة هذه الشروط على ضوء ما قاله مسئولون إسرائيليون فى الأشهر الماضية عن أن هذه المجموعات ينبغى أن توافق عليها إسرائيل أولا. أى موافقة لإسرائيل على هذه المجموعات سيجعلها تفقد قبولها لدى سكان القطاع وينزع عنها الشرعية فيستحيل عليها إدارة غزة. وعن اشتراك إسرائيل مع مصر فى تأمين الحدود الفاصلة بين مصر وغزة، فلقد رفضته مصر بشكل قاطع.
• • •
بالإضافة للترتيبات الأمنية، فمن أهم ما جاءت به الخطة مبدأ تصفية التطرف من العقول الفلسطينية، ومبدأ إنهاء عمل وكالة غوث اللاجئين، وهما مبدآن مرتبطان ببعضهما البعض. إسرائيل تظن أن ما تلقاه من مشاعر عدائية من قبل الفلسطينيين لا يرجع إلى أسباب موضوعية بل إلى أسباب ذاتية تحرك من يرتكبونها، يمكن إبطال مفعولها وإعادة تشكيلها بأساليب الهندسة الذهنية. بهذه الأساليب تريد إسرائيل أن تنزع أفكار المقاومة والعودة وحق تقرير المصير من العقول الفلسطينية ليحل محلها الخضوع والقبول بالتسيد الإسرائيلى. تصفية التطرف من العقول يذكر ببرنامج تصفية النازية من العقول الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية. الحالتان على النقيض الواحدة من الأخرى. النازية كانت تجسيدا لادعاء التفوق العنصرى، وهى التى احتلت بلادا وتوسعت واضطهدت ومارست التفرقة والتصفية العنصريتين بحق شعوب البلدان التى احتلتها ألمانيا بل وبحق مواطنيها، فكان ضحاياها من اليهود والغجر والمعوقين. على العكس من ذلك، الفلسطينيون هم الذين يمارس بحقهم التفوق العنصرى وهم ضحايا الاضطهاد، والتفرقة والتصفية العنصريتين. أما وكالة تشغيل وغوث اللاجئين فإسرائيل ترى أنها سبب رئيسى لعدم قبول الفلسطينيين لها وللعنف الذى يمارس ضدها، وذلك بسبب التعليم الذى يتلقونه فى مدارسها، تعليم لا يفتأ يذكرهم بفلسطين وبحق العودة إليها. إسرائيل تريد أن تصبح البرامج التعليمية أدوات لمزيد من الهندسة الذهنية التى تجعل الفلسطينيين يقبلون فكرة التفوق الإسرائيلى عليهم.
• • •
الخطة هى ما يعرضه رئيس الوزراء الإسرائيلى لكى يعاد بناء غزة وليعيش الفلسطينون فيها. هو لا يريد منهم طلبا يتعدى ذلك الذى يعرضه. إن قبل الفلسطينيون عرضه سيمكن لإسرائيل التعايش معهم. نضيف أن تخفيض سقف الطلب الفلسطينى سيجعله يتكافأ مع العرض الإسرائيلى، فيمكن تحقيق السلام بين الطرفين. نقتبس من النظرية النيوكلاسيكية فى الاقتصاد لنقول أن رئيس الوزراء الإسرائيلى، ومن ذهب مذهبه، يريد الإيحاء بأن العرض من السلام والطلب عليه فى الشرق الأوسط متكافئان، يحققان التوازن فى السوق الحرة للسلام الإقليمى، توازن لا يعكر صفوه إلا عنف «حماس» فى غزة ومن جاراها فى الضفة الغربية وغيرها من بقاع المنطقة. إن كسرت شوكة «حماس» ومعكرى الصفو الآخرين، يسود التوازن ويتحقق السلام وتعيش المنطقة فى وئام وصفاء.
حقيقة الأمر هى أن الطلب على السلام يتعدى كثيرا عرض إسرائيل منه، وأن السوق، أساسا، ليست حرة. كيف تكون حرة وإسرائيل تحتل أراضى فلسطينية وعربية أخرى، وهى مدججة بأحدث أنواع السلاح الفتاك لا ينقطع تزويدها به، تستخدمه كما يحلو لها، وهى محصنة بحماية الولايات المتحدة من أى مطالبة تصدر عن المجتمع الدولى بمجرد أن تتعامل بإنسانية مع من احتلت أراضيهم وشردتهم منها؟
غير أن فى خطة رئيس الوزراء الإسرائيلى فرصة يجدر بالشعب الفلسطينى وأنصاره استغلالها والاستفادة منها. رواية إسرائيل منذ نشأتها أنها داوود، ممثل الخير صغير الحجم، فى مواجهة العملاق الشرير جالوت، وهو الاستعارة التى تمثل الشعب الفلسطينى وغيره من الشعوب والبلدان العربية. داوود يطلب السلام وجالوت، الفلسطينيون والعرب، لا يعرضونه عليه. الصورة هذه مغلوطة منذ نشأة إسرائيل وهى أوهمت بها العالم فأصبحت الأساس الذى تنبنى عليه أى مفاوضات. خطة رئيس الوزراء الإسرائيلى تبين بوضوح أن الآية معكوسة. هو يعرض شروط إسرائيل التى على الفلسطينيين أن يوائموا طلبهم معها. العرض من إسرائيل والطلب من الشعب الفلسطينى.
المجتمع السياسى الدولى تنبهت بعض أطرافه من الدول إلى هذا الواقع منذ عقود طويلة، وهذا التنبه أخذ يكتنف دولا جديدة بما فى ذلك المحسوبة فى المعسكر الأطلسى مثل أيرلندا وإسبانيا وبلجيكا. فى الجنوب العالمى، جل الدول تدرك هذا منذ وقت طويل، وإن وجب الحرص على أن تبقى هذه الدول على تحليلها هذا لمن يطلب السلام ومن لا يعرض إلا استمرار الاحتلال.
بدوره المجتمع المدنى العالمى تنبه فى العقدين الأخيرين إلى حقيقة داوود وجالوت بين الفلسطينيين وإسرائيل، وفى الحرب الجارية على غزة اكتسب إدراك هذه الحقيقة مزيدا من مكونات هذا المجتمع خاصة فى أوروبا وأمريكا الشمالية، وليس شاهد أفضل على ذلك من المظاهرات التى عمت مدنهما والبيانات التى صدرت عن مثقفيها، حتى وصل الأمر بأحد جنود الولايات المتحدة ذاتها إلى أن يشعل النار فى نفسه أمام السفارة الإسرائيلية فى العاصمة الأمريكية احتجاجا على تدمير غزة وقتل عشرات الآلاف من نسائها وأطفالها ورجالها، وعلى حرمان من لم يقتل منهم من المسكن والغذاء والماء والدواء، وعلى استمرار قذفهم بالقنابل والصواريخ دون أى غطاء يقيهم نيرانها.
• • •
قال بعض الإسرائيليين أن خطة رئيس وزرائهم هى مبادئ الحد الأقصى للشروط التى يعرضونها، بمعنى أنها ليست نهائية فالولايات المتحدة نفسها أعلنت عن مبادئ مغايرة لها. أيا كان ما يقوله رئيس الوزراء وأنصاره، والدول التى تساند إسرائيل وتتبنى روايتها، فإن الخطة تبين بجلاء أن إسرائيل فى موقع القوى الذى يعرض ويريد ممن يمارس العنف ضدهم أن يكيفوا طلبهم مع ما يعرضه. هذا انقلاب فى الصورة التى رسمتها الصهيونية للصراع العربى الإسرائيلى وللصراع الفلسطينى الإسرائيلى الخمس وسبعين سنة الماضية.
فليركز الفلسطينيون من الآن فصاعدا على أنهم هم الذين يطلبون الأمن والتعايش والسلام التى ينكرها عليهم رئيس الوزراء الإسرائيلى وأنصاره إنكارا هو السبب فى الاستمرار فى إراقة الدماء وفى وحشية الشهور الخمسة الأخيرة، وفى تهديد المنطقة بما لا يحمد عقباه.
إبراهيم عوض أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
التعليقات