عن التطور الثقافى - حازم الببلاوي - بوابة الشروق
الأربعاء 16 أبريل 2025 10:11 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

عن التطور الثقافى

نشر فى : السبت 2 يوليه 2011 - 9:00 ص | آخر تحديث : السبت 2 يوليه 2011 - 9:00 ص
التطور هو سنة الحياة، فلا شىء يبقى على حاله. فالمجتمعات تتغير وتتطور فى علاقاتها مع أفرادها ومع المجتمعات الأُخرى، والفكر البشرى يتطور معها، أو بالأحرى يطورها. فالإنسان هو محرك التطور والتغير كما أنه موضوعه.

والمجتمع المعاصر لما بعد الحداثة ليس هو المجتمع الصناعى التقليدى الذى جاء مع الثورة الصناعية. وجاء هذا المجتمع الصناعى مختلفا عن المجتمع الزراعى السابق والذى كان الأساس فى ظهور الحضارات الأُولى.

وكثيرا ما كان يقال إن أهم ثورتين فى حياة البشرية كانتا الثورة الزراعية قبل حوالى عشرة آلاف سنة ثم الثورة الصناعية منذ أقل من ثلاثمائة سنة. فالثورة الزراعية بدأت فى مكان ما من الشرق الأوسط، ربما فى جنوب تركيا أو على حدود بحر قزوين، أو فى بلاد الرافدين، وهناك من يعتقد أنها بدأت فى مصر القديمة. ومع هذه الثورة الاقتصادية الأُولى لم يعد الإنسان عبدا للطبيعة يقتات بما تفىء به عليه بما يلتقطه من ثمار أو ما يقتنصه صيد، بل أصبح الإنسان مع الزراعة، شريكا للطبيعة، فهو يمهد الأرض ويبذر البذور ويوالى الزراعة بالحرث والرى وأخيرا الحصاد. ومعها بدأ الإنسان يستقر فى موقعه مما أدى إلى نشأة المدن، وبدأ تقسيم العمل بين الرجال والإناث، وظهرت السلطة كما صاحبها العديد من المعتقدات الدينية. وهكذا بدأت الحضارات الكبرى فى مصر الفرعونية كما فى بابل وبلاد الشام ثم الحضارة الإغريقية والفارسية وبعدهما الرومانية.

وظهر الإسلام فى الجزيرة العربية فى بيئة للتجار، فقامت حضارة هائلة، بعد أن أسقطت الدولة الفارسية وقلصت من حدود الدولة الرومانية ثم تسيدت العالم حتى منتصف القرن السابع عشر. وبدأ انتقال مركز الثقل إلى أُوروبا منذ هذا التاريخ بعد نهاية عصر النهضة ومع بداية عصر التنوير فى أُوروبا، وذلك قبل أن تنفجر الثورة الصناعية فى منتصف القرن الثامن عشر فى إنجلترا ثم فرنسا ومن بعدهما مختلف الدول الأُوروبية ثم أمريكا.

ومع الثورة الصناعية عرفت البشرية قفزة نوعية جديدة لم يعد معها الإنسان خاضعا تماما للطبيعة كما فى المجتمعات البدائية، ولا حتى شريكا معها كما فى المجتمعات الزراعية، بل أصبح أو كاد يصبح سيدا للطبيعة، يخضعها ويشكلها وفقا لمعارفه العلمية. وها نحن ندخل فى مرحلة ما بعد الصناعة مع ثورة المعلومات، وحيث لم تعد الصناعة إضافة إلى قوى الإنسان العضلية، بل أصبحت التكنولوجيا الحديثة إضافة إلى إمكانياته العقلية. وتنوعت اهتمامات الإنسان، وكان اختراع الماكروسكوب والميكروسكوب رمزا لاهتمام الإنسان المعاصر بالآفاق الكونية على اتساعها من ناحية، والخوض فى أكثر أجزائها صغرا من ناحية أُخرى. وتعددت اهتمامات الإنسان من أبحاث الفضاء إلى تكنولوجيا النانو، فنزل الإنسان على القمر وأرسل المركبات الفضائية للإبحار فى الفضاء فى نفس الوقت الذى انغمس فى أصغر مكونات المادة وأجزائها للبحث عن أسرارها.

وإزاء هذا المشهد المبهر لم يكن غريبا أن يصبح موضوع «التطور» هو أحد أبرز اهتمامات المفكرين خلال القرنين الماضين. فالإنسان كائن متطور كما أن العالم، بل والكون نفسه، فى تطور مستمر، وبالتالى فلا بد وأن نتساءل عن الفكر البشرى وهل يعرف هو الآخر تطورا مماثلا. فماذا عن التطور الثقافى، وهل يختلف عن التطور البيولوجى مثلا؟

وقبل أن نجيب عن هذا التساؤل قد يكون من المفيد أن نتذكر أن موضوع التطور قد شغل الساحة الفكرية خصوصا منذ منتصف القرن التاسع عشر. حقا، إن فكرة التغيير والثبات قد شغلت الفلاسفة منذ الإغريق. فالمعروف أن الفيلسوف هيراقليتس Heraclitus، قال كلمته المشهورة «بأنك لا تستحم فى نفس النهر مرتين». فكل شىء يتغير، وعندما تنزل فى المرة الثانية فأنت تستحم فى نهر جديد. على أن مفهوم «التطور» أخذ شكلا أوضح منذ الثورة الصناعية، ويمكن أن نفرد هنا مكانا خاصا لكل من كارل ماركس وشارلز داروين.

فالأول تحدث عن أن ظهور النظام الرأسمالى القائم حينذاك لم يكن سوى مرحلة فى تطور النظم الاقتصادية، وإنه إلى زوال، فيما عبر عنه «بالحتمية التاريخية». وكان ماركس مع زميله أنجلز قد أصدرا بيانهما الشيوعى فى 1848، مؤكدين أن هذا النظام قام على أشلاء النظام الإقطاعى، وأنه سوف يتطور ليتحول إلى الاشتراكية والشيوعية تحت تأثير التطور التكنولوجى وتركز رأس المال. وبعد هذا البيان بعشر سنوات أصدر البريطانى داروين 1859 كتابه عن «أصل الأنواع»، مبينا أن الكائنات الحية تتطور وفقا لنظريته فى «الانتخاب الطبيعى». وبعد ذلك بمائة عام اكتشف العالمان جيمس واطسن وفرانسس كيرك التركيب العضوى للجينات الوارثية وما يعرف بالحمض النووى DNA، وكيفية اكتساب الخصائص الوراثية وتطورها. ومع هذا الاكتشاف العلمى الأخير أصبح موضوع التطور الوراثى أحد أهم مشاغل المفكرين. وبذلك أعيد التساؤل عن التطور الثقافى للمجتمعات، وهل يعرف هذا التطور الثقافى نمطا مشابها أو مقاربا للتطور الوراثى للجينات فى العلوم البيولوجية؟

عندما نتحدث عن الثقافة فإننا نتحدث عن مجموعة من الأفكار السائدة فى المجتمع والتى تحدد نمطا معينا للسلوك لأفراد هذا المجتمع يميزه عن غيره من المجتمعات. ولذلك عندما نتحدث عن ثقافة مجتمع فإننا نتحدث عن أنماط للسلوك تكونت واستقرت عبر فترات ممتدة والتى تتغير بشكل بطىء وغير ملموس. وقد تكون هذه الأفكار متعلقة بالنظرة إلى الطبيعة المحيطة ومدى الاعتقاد فى فاعلية العلوم أو العادات المستقرة، كما قد تتعلق بالأخلاق وما هو حسن وما هو قبيح، أو بالذوق الفنى فى الرسم أو النحت أو الغناء أو الموسيقى، وهكذا. وبطبيعة الأحوال فإن الثقافة بهذا المعنى ليست قالبا جامدا بل هى تتمتع بقدر غير قليل من السيولة والقابلية للتغير والتطور. والسؤال هل تنتقل الثقافة من جيل إلى آخر بشىء من الوراثة من الأجيال السابقة كما فى حالة الجينات؟

لفهم الإجابة علينا أن نتذكر كيف تنتقل الخصائص الوراثية للكائنات الحية من خلال الجينات وفقا لآخر تطورات علوم البيولوجيا. فيرى علماء الجينات أن أهم صفاتها هى أنها تحدد أهم صفات الإنسان، وأنها فضلا عن ذلك تقوم بنسخ نفسها فهى أشبه بآلة التصوير أو النسخ Replicator، وبحيث يتم نقلها من الأب والأم إلى المولود الذى يحمل نفس الصفات الموروثة من الأبوين. وهكذا تتحقق الوراثة من خلال هذه الجينات والتى تؤدى إلى توليفة جديدة للمولود من صفات كل من الأبوين. وكان رأى داروين أن «التطور» يحدث نتيجة لتغير مفاجئ أو طفرة Mutation فى هذه الصفات الموروثة. وجاء العلماء المحدثون للتأكيد بأن هذه الطفرة قد تحدث نتيجة اختلال فى نسخ الجينات التى تنتقل من جيل لآخر. فرغم أن الوظيفة الرئيسية للجينات هى نسخ نفسها ونقلها من جيل لآخر، فهناك أحوال يحدث فيها بعض الخلل فى النسخ مما يؤدى إلى ظهور صفات جديدة فى الجينات المنقولة إلى الوليد. وإذا صادف أن كانت هذه الصفات الجديدة أكثر مناسبة وملائمة للبيئة فإن هناك فرصة أكبر لكى يتمتع أصحابها بقدرة أكبر على التعايش والتكاثر، وبذلك تمثل هذه الصفات الجديدة تطورا جديدا فى خصائص الكائن الحى.

والسؤال الذى طرح نفسه على العديد من علماء البيولوجيا، هل هناك أسلوب مشابه لتحقيق التطور الثقافى بنوع من الوراثة بين الأجيال كما هو الحال بالنسبة للتطور البيولوجى؟

وقد رأى أحد العلماء المحدثين للعلوم البيولوجية ــ ريتشارد دوكنز Dawkins ــ فى كتاب له ظهر بعنوان « الجينات الأنانية» Selfish Gene، أن أهم ما يميز هذه الجينات، هو أنها أشبه بآلة ناسخة تعيد نسخ نفسها وتنتقل هذه النسخ الجديدة للأجيال التالية، وبذلك تنتقل الصفات الوراثية فيما بين الأجيال. وقد رأى دوكنز أن هناك من «الأفكار» ما يمكن تشبيهه «بالجينات» القادرة على إعادة نسخ نفسها لكى تنتقل من جيل لآخر. وقد سك لهذه الأفكار اصطلاحا جديدا ــ ميم Memes ــ فالوليد يتعلم من أبيه ومن الوسط الذى يعيش فيه اللغة كما يكتسب من المجتمع قيمه الأخلاقية للتميز بين ما هو حسن وما هو قبيح، وبالمثل فإن ذوقه الفنى يتشكل ــ عادة ــ من خلال حياته الاجتماعية، ونفس الشىء بالنسبة للعديد من العادات والتقاليد والتى تمثل جزءا كبيرا من ثقافة الفرد. وهكذا فإن هذه «الأفكار» (الميمات) تنتقل فى المجتمع من جيل لآخر كما تنتقل الصفات الوراثية من خلال الجينات. وكما أن انتقال الصفات الوراثية للجينات يمكن أن يخضع لبعض الطفرات مما يؤدى إلى تطور بيولوجى فى حياة الكائنات، فإن «الأفكار» وهى تنتقل من جيل لآخر قد تخضع هى الأُخرى لطفرات مما يؤدى إلى إحداث نقلة فى التطور الثقافى.

ورغم طرافة الفكرة فى المقارنة بين انتقال الصفات البيولوجية بالوراثة بين الأجيال عن طريق الجينات وبين انتقال المكونات الثقافية بنوع من الوراثة عن طريق «الميمات»، فإن هناك اختلافا جوهريا بين الأمرين. فانتقال الجينات من الأبوين للأبناء يتم بشكل بيولوجى وشبه ميكانيكى وغير إرادى، فى حين ان انتقال العناصر الثقافية يخضع ـــ بعض الشىء ــ لحرية التقدير عند المتلقى. وعادة ما يختلف الأمر وفقا للجو الثقافى العام السائد فى المجتمع.وبعبارة أخرى، فإن الوراثة الثقافية تتوقف على البيئة الاجتماعية السائدة. ففى بعض المجتمعات السلطوية المغلقة، والتى تقوم على التربية الصارمة للأبناء وعدم إتاحة الفرصة للجدال والحوار وحيث تغلب السلطة الأبوية على حرية الآراء، فإن التأثير الثقافى للأجيال القديمة يكون أكبر وأعمق وأشد جمودا. وعلى العكس فإن المجتمعات التى تقوم على احترام حرية الرأى وتشجيع تعدد الأفكار وحرية المناقشة والنقد، فإن التأثير الثقافى للأجيال القديمة يكون خلاقا وبما يساعد على مزيد من التنوع لدى الأجيال اللاحقة، مع قدرة أكبر على الإبداع والابتكار.

وهكذا يتضح أن الجدل السائد حول دور كل من الوراثة والبيئة فى السلوك الاجتماعى يرتبط أيضا بطبيعة القيم السائدة فى المجتمع. فحيث تسود قيم السلطة والتقيد والخوف من الجديد والغريب، فإن القيم الموروثة لا تقتصر الصفات البيولوجية الموروثة بل قد تمتد أيضا إلى الخصائص الثقافية القديمة المنقولة عن الآباء والأجداد. وعلى العكس فحين تسود قيم النقد والتجديد والابتكار والمغامرة، فإن المجتمع يكون أقدر على تجديد وتطوير ثقافته الموروثة. ومن هنا خطورة التعليم فى المدارس ومدى اعتمادها على أسلوب الحفظ والذاكرة والاستناد إلى كل ما هو قديم، أو على العكس تشجيعها على تنمية وتطوير القدرات النقدية وتعدد الآراء وحرية التعبير واحترام رأى الآخرين. فالأولى أقرب إلى المجتمعات التقليدية الراكدة، والثانية تمثل المجتمعات الديناميكية والمتطورة. ولذلك فإن قضايا التعليم والإعلام وحرية الرأى والنقد هى فى مقدمة ضرورات الإصلاح الثقافى. والله أعلم.

 

حازم الببلاوي  مستشار صندوق النقد العربي في أبوظبي ، ووكيل الأمين العام للأمم المتحدة الأسبق ، حاصل على ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة مع مرتبة الشرف ، كما حصل على العديد من الجوائز والأوسمة من حكومات وهيئات عالمية ومحلية مختلفة ، وهو صاحب العديد من المؤلفات باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية في مجالات التنمية والتعاون الاقتصادي ، بالإضافة إلى عدد كبيرمن الأوراق المُقدمة إلى مؤتمرات إقليمية ودولية.
التعليقات