بدأت الأرضية السياسية تهتز تحت أقدام الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو. فعلى المسرح الإقليمى حدثت التطورات الآتية:
أولا: تحول حرارة التعاون مع تركيا سياسيا وعسكريا واقتصاديا إلى قطيعة؛ حتى أن تركيا قررت إطلاق العنان لقواتها البحرية والجوية للتحرك فى شرق المتوسط على نحو لم يسبق له مثيل منذ العهد العثمانى. لقد تمكنت إسرائيل من اختراق الجبهة الإسلامية من خلال الحصول على اعتراف تركيا بها وبالتحالف معها. وكادت باكستان فى عهد رئيسها السابق برويز مشرف تتبع تركيا بالاعتراف بإسرائيل. ولكن الجنرال الباكستانى سقط ــ أو أسقط ــ قبل أن يبادر إلى ذلك. وها هى علاقات إسرائيل مع الكتلة الاسلامية (غير العربية) تعود إلى نقطة الصفر من جديد، أى إلى حيث يجب أن تكون!!.
ثانيا: فشل محاولة لى ذراع البرنامج النووى الإيرانى. صحيح أن إيران أعلنت أنها ليست بصدد إنتاج سلاح نووى، ولكن إسرائيل لا تصدق ذلك. وهى غير مطمئنة إلى النوايا الإيرانية. ولقد حاولت مرارا استدراج ادارة الرئيس الأمريكى باراك أوباما إلى ضرب إيران، كما استدرجت من قبل إدارة الرئيس السابق جورج بوش لضرب العراق، ولكنها فشلت فى ذلك. فهذه المرة استحال الجمع بين المحافظين الجدد، والصهيونية المسيحانية واللوبى اليهودى فى الإدارة الأمريكية. ثم إن الولايات المتحدة التى كانت فى عام 2003 تتطلع إلى أن تتربع على عرش السلطة فى العالم، تغرق اليوم فى أزمة الديون والبطالة.
ثالثا: كانت إسرائيل تنام على مخدة أمان معاهدة السلام مع مصر. ولكن ضامن هذه المعاهدة الرئيس السابق حسنى مبارك عزل من منصبه. فسقطت معه الضمانات التى كانت تترجم إسرائيليا نهبا للغاز المصرى، وحرية للملاحة فى قناة السويس، وسكوتا مطبقا على جرائم الحرب التى ترتكبها إسرائيل فى قطاع غزة وفى الضفة الغربية وكذلك فى لبنان. ومع قيام الانتفاضات العربية، أدركت إسرائيل أن الأوضاع لن تبقى على ما هى عليه، وأن الانتفاضات سوف تنعكس على العلاقات معها عاجلا أو آجلا. ولعل أول مؤشر على ذلك كان الهجوم على مبنى السفارة الإسرائيلية فى القاهرة. ثم كان طلب الحكومة المصرية الحالية إعادة النظر فى معاهدة كمب دافيد بما يمكّن قوات الأمن المصرية من أداء دورها بشكل أفضل فى شرق سيناء. فقد أثبتت التطورات أن رياح التغيير التى تهب على المنطقة العربية لن يصدها الجدار العازل الذى أقامته إسرائيل وأنفقت عليه أكثر من مليار دولار.
●●●
وكما خسرت إسرائيل مكاسبها فى اختراق الكتلة الإسلامية، فإنها تقف قاب قوسين أو أدنى من خسارتها المكاسب التى حققتها باختراق الجبهة العربية. حتى جبهة الجولان التى عرفت احتراما مطلقا لوقف النار منذ عام 1974، عادت واهتزت من جديد، لتذكر إسرائيل بأن الاستقرار الذى يفرضه الاحتلال هو استقرار وهمى، وأنه معرض للسقوط فى أى وقت تحت ضربات حركة التغيير التى تعيد صناعة المستقبل العربى من جديد.
لقد رفضت إسرائيل عمليا وواقعيا المبادرة العربية التى أعلنتها القمة العربية فى بيروت فى عام 2002، وجددتها فى مؤتمرات القمم العربية التالية. وأجهضت إسرائيل مبادرة اللجنة الرباعية الدولية (الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى والاتحاد الأوروبى والأمم المتحدة) وسفهت المبادرة الأمريكية التى قام بها الرئيس الأمريكى باراك أوباما، واستهانت بانفتاح رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس (أبو مازن) على مساعى التسوية رغم الاعتراضات التى أعلنتها حركة حماس، ورغم اعتراضات العديد من الفصائل الفلسطينية الأخرى. وعطلت إسرائيل مبادرة الوساطة التركية مع سورية، وردت على كل تلك المبادرات بتوسيع الاستيطان اليهودى فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، وبانتهاك حقوق الفلسطينيين فى الأراضى المحتلة، وإحراق مساجدهم وحقولهم ومصادرة منازلهم.
وبذلك تكون إسرائيل قد صدت الأبواب كلها فى وجه الفلسطينيين والعرب والمسلمين وفى وجه المجتمع الدولى (الأوروبى ــ الأمريكى ــ الروسى) ومنظمة الأمم المتحدة. وهى تعتمد فى احتواء ردود الفعل الغاضبة على دور اللوبى اليهودى خصوصا فى الولايات المتحدة عشية الانتخابات الرئاسية، وبالتالى على قدرته على لىّ ذراع الادارة الأمريكية لتضغط بدورها على حلفائها فى أوروبا لقبول الأمر الواقع الذى تفرضه اسرائيل.
وكان آخر مؤشر مهم على ذلك، الانتخابات الفرعية التى جرت فى نيويورك. فقد تمكن اللوبى اليهودى من أن يوجه رسالة مكشوفة للرئيس أوباما تتعلق بالانتخابات الرئاسية المقبلة. إذ تمكن اللوبى من تأمين فوز عضو مجهول ــ بوب تيرنل ــ من أعضاء الحزب الجمهورى المعارض للرئيس أوباما بمقعد فى مجلس النواب احتكره الحزب الديمقراطى لدورات عديدة سابقة. لم يشفع للرئيس أوباما تراجعه عن الضغط على إسرائيل لوقف بناء المستوطنات. كما لم يشفع له موافقته على تمويل شبكة الدفاع الصاروخى الإسرائيلية رغم الضائقة المالية الخانقة التى تعانيها الولايات المتحدة. فرئيس الحكومة نتنياهو أراد أن يوجه الرسالة مباشرة إلى الرئيس أوباما. ومفادها أنه إما أن تقف إلى جانب إسرائيل وتحصل على دعم اللوبى اليهودى الأمريكى، وإما أن تواجه الفشل كما واجهه مرشحك الديمقراطى دافيد ويبرين فى نيويورك!! ويبدو أن الرئيس أوباما اختار استرضاء إسرائيل. وقد جاء خطابه أمام الجمعية العام للأمم المتحدة ليؤكد هذا الخيار. وبذلك يكون قد تخلى عن المبادئ العامة التى أعلنها فى خطابه الشهير أمام جامعة القاهرة بشأن احترام الحقوق الوطنية والإنسانية للشعب الفلسطينى، وانحنى للضغط الإسرائيلى الأمر الذى يعنى مواجهته خطر تحدى «الربيع العربي» الذى أزهرت براعمه فى العديد من الدول العربية.
●●●
أثبتت إسرائيل مرة جديدة أنها تستطيع أن تبتز الرئيس الأمريكى، تقريبا كل رئيس، ولكن ماذا تكون النتيجة؟.. هل يخرج خضوع الرئيس أوباما للابتزاز، إسرائيل من العزلة الدولية التى دفعها اليها الثنائى نتنياهو ــ ليبرمان؟ لقد صدرت بيانات عن عدد من المنظمات الدولية تدين إسرائيل بسبب انتهاكها للمواثيق الدولية ولقرارات الأمم المتحدة ولحقوق الإنسان ولمعاهدات جنيف. ولكن إسرائيل ضربت بذلك كله عرض الحائط. فالتهمة باللاسامية جاهزة للتشهير بأى من هذه الدول والمنظمات الدولية. حتى إن مستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل عندما تحدثت فى المؤتمر الذى نظمته مؤسسة سانت ايجيديو فى ميونيخ فى منتصف شهر ــ سبتمبر ــ وصفت «حصار» السفارة الإسرائيلية فى القاهرة بـ»الاعتداء»، ووصفت مقتل الجنود المصريين فى سيناء على يد القوات الإسرائيلية بـ«الحادث». مع أن حصار السفارة الذى استمر لساعات فقط جاء رد فعل على عملية القتل التى أودت بحياة خمسة جنود مصريين!!.
لقد ابتزت إسرائيل الولايات المتحدة ودول العالم منذ انشائها فى عام 1948 ولكن إلى متى؟ ووظفت هذا الابتزاز لإخضاع العالم العربى وحتى العالم الإسلامى الذى يزيد عدد سكانه على المليار ونصف المليار إنسان. ولكن إلى متى أيضا؟. تستطيع إسرائيل أن تبتز كل العالم بعض الوقت.. ولكنها لا تستطيع أن تبتز كل العالم.. كل الوقت.