لا شك أن ملحمة أكتوبر لا تزال تشكل أهم انتصار للشعب المصرى والأمة العربية فى القرن العشرين، فعملية الإعداد العسكرى والتعبئة الشعبية والقيم التى بنيت عليها من إيثار وفداء وانتماء وإخلاص وإيمان بالوطن وثقة فى الانتصار كلها تشكل روح أكتوبر التى عاشها المقاتلون المصريون الذين قدموا أرواحهم فداء لمصر، فمنهم من استشهد ومنهم من ينتظر. إن حرب أكتوبر والتى ليست كأى حرب، وانتصار أكتوبر والذى ليس كأى انتصار، رسخت من مفهوم الأمن القومى العربى وسياساته، بل طورت نظرية الأمن القومى لكى تبنى على أبعاد ثلاثة، القدرة العسكرية والتوازن السياسى وإشباع الحاجات الأساسية، وعلى الرغم من الإغراء الذى تقدمه ذكرى أكتوبر للجميع للكتابة عنها وتحليل ظروفها، بيد أن دقة التحليل وجمال السرد وصدق الكتابة يتوقف على ما إذا كان الكاتب ممن شاركوا فى الحرب أو عايشوها، أو من الخبراء المدققين والفقاة فى علوم الاستراتيجية والأمن القومى.
لقد عكست حرب أكتوبر فهم العرب جميعا للأمن القومى العربى وحرصهم الشديد على تحقيقه وحمايته، فقط تجلت روح أكتوبر أولا فى سابقة تنسيق وتعاون استراتيجى استثنائية بين مصر وسوريا، حيث اتفق الرئيسان السادات والأسد على يوم الحرب، ٦ أكتوبر ساعة الصفر، الساعة ٢ ظهرا لبدء الحرب المشتركة ضد إسرائيل بغية تحرير سيناء والجولان من الاحتلال الإسرائيلى، يضاف إلى ذلك ويدعمه قرار الدول العربية المنتجة للنفط بحظر تصديره إلى الدول المعادية للعرب والموالية لإسرائيل، فقد تزعم هذا القرار الاستراتيجى كل من المرحوم الملك فيصل والمرحوم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، على الرغم من التهديدات الغربية بإلحاق الضرر بالأشقاء العرب، فإذا أضفنا إلى ذلك، القوات العسكرية العربية التى تمركزت فى الأردن وعلى ضفة قناة السويس والمعدات العسكرية التى قدمتها الدول العربية لدولتى المواجهة لاكتملت الصورة، تنسيق استراتيجى، تعاون اقتصادى، مساندة قتالية فى حرب تحرير بامتياز، هكذا سادت روح أكتوبر الوطن العربى، شعوبا وحكومات وتمثلت فى الإجماع القومى على ربط التحرير بتحقيق الأمن القومى العربى الذى هو حاصل جمع الأمن الوطنى للدول العربية كافة.
إن الدروس المستفادة فى حرب أكتوبر والمتمثلة فى روح أكتوبر، يمكن إيجازها فى عدة حقائق لا غنى للأمة العربية عنها، إن أردنا حماية وطننا العربى وجمع شمله، وصيانة أمنه، فمن ناحية أكدت الحرب أن التخطيط والتنفيذ والانتصار تتطلب صلابة الجبهة الداخلية، فقد كان هناك التزام داخلى بالانضباط والالتزام بتحرير الأرض كأولوية لا تضاهيها أى أهداف، وكرست الجماعة الوطنية كل جهودها لمساندة قواتها المسلحة، واصطف الجميع لدعم المجهود العسكرى بالمال والفن والجهد دون كلل، وهكذا فإن القدرة على مواجهة التحديات والشدائد والأزمات تستلزم الإجماع القومى على الأهداف القومية العليا، وتتطلب تقديم الإيثار على ما عداه.
ومن جانب آخر، ساعدت روح أكتوبر على إعادة صياغة الأمن القومى العربى بصورة تؤكد على الترابط العضوى بين أمن الدول العربية وأمن شعوبها، وهو ما استلزم إدراك التهديدات المشتركة سواء تمثلت فى إسرائيل أو دول الجوار غير العربية، أو أطماع القوى الكبرى فى الأمة العربية، أو الجماعات الإرهابية المتحالفة مع القوى الخارجية، ثم التوافق بشأن السياسات الأمنية الفاعلة فى ظل ظروف دولية وإقليمية غير مستقرة وغير مواتية وربما عدوانية.
وتذكرنا روح أكتوبر بأن النظام الدولى الراهن والذى يتسم بالغموض وعدم الاستقرار يقتضى من الدول العربية إعادة النظر فى أسس وقواعد التنسيق والتكامل بل والاندماج العربى على الرغم مما أصاب أكثر من ثلث الدول العربية من فشل فى مؤسساتها وفقدان السيطرة على مواردها مما فتح الباب واسعا للتدخل الخارجى سواء من دول الجوار أو الجماعات الإرهابية الممولة دوليا والموظفة لصالح قوى خارجية، وليس جديدا القول بأن أمن الخليج وأمن البحر الأحمر وأمن الشام والمغرب العربى مترابط وأن أى خرق لأمن أى منها يهدد الأمن القومى العربى مجتمعا.
وفى ظل التحديات الراهنة، والحاجة الملحة إلى التأكيد على مكانة الوطن العربى فى النظام الدولى ومسئولية الدول العربية المستقرة والقوية فى التوصل إلى إجماع قومى عربى، ألا يمكن أن تكون القمة العربية القادمة فى الجزائر نقطة انطلاق تاريخية فى سبيل تحقيق المصالح العربية المشتركة، والأمن القومى العربى دون إبطاء هنا يبرز دور الجامعة العربية فى إعداد جدول أعمال خلاق، والإعداد لمناقشات إبداعية لا هم لها إلا المصالح العربية وأمن الأمة العربية، ومما يساعد فى الوصول إلى ذلك حتمية حضور الملوك والأمراء والرؤساء العرب للتشاور والتفاهم والاتفاق على تعزيز كيان العرب ومكانتهم فى عالم اليوم.
أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة