منذ بداية الحرب بين إسرائيل و«حماس»، وفى أعقاب الدعم الأمريكى الكبير لإسرائيل، ازدادت ضربات الميليشيات الداعمة لإيران ضد أهداف أمريكية فى سوريا والعراق بصورة كبيرة. وفى الوقت نفسه، أطلق الحوثيون، الذين تدعمهم إيران، يوم 18 و27 أكتوبر الماضى، صواريخ أرض ــ أرض ومسيرات من الأراضى اليمنية فى اتجاه إسرائيل ومصر، والتى اعترضتها القوات الأمريكية والإسرائيلية. تأتى هذه الضربات بعد هدنة منذ بضعة أشهر جاءت نتيجة تفاهمات بين الولايات المتحدة وإيران، وفى إطار اتفاق تبادُل أسرى وتحرير أموال إيرانية مجمدة.
وكردٍّ على الهجمات، ضربت القوات الأمريكية هدفين يُستعملان كمخازن أسلحة تابعة للحرس الثورى الإيرانى وحلفائه فى العراق وسوريا. وزير الدفاع الأمريكى شدد فى بيان نُشر، على أن «الضربات الدقيقة» تهدف إلى إرسال رسالة إلى إيران، مفادها أن الولايات المتحدة لن تتحمل هكذا ضربات، وأنها ستدافع عن نفسها، وعن جنودها ومصالحها؛ وأيضا إشارة إلى أن الإدارة لا تبحث عن مواجهة، ولا نية لديها، أو رغبة فى تنفيذ عمليات إضافية، وأن عملياتها منفصلة عن القتال الذى يدور بين إسرائيل و«حماس». الميليشيات، من جهتها، أوضحت العكس، وشددت على أن الوقوف الأمريكى إلى جانب إسرائيل فى القتال ضد «حماس» هو الدافع إلى هذه الضربات التى تم تنفيذها.
حتى إن البيت الأبيض أوضح أن الرئيس بايدن أرسل رسالة مباشرة إلى القيادة الإيرانية، وحذّرها من الاستمرار فى مهاجمة مواقع أمريكية فى الشرق الأوسط، ومن استغلال حزب الله الفرصة لتوسيع الحرب ضد إسرائيل. وإلى جانب الرسائل الدبلوماسية، حذّرت مجموعة من المسئولين الأمريكيين، وعلى رأسهم الرئيس بايدن نفسه ووزير الخارجية أنتونى بلينكن، الإيرانيين من أن استمرار ضرباتهم ضد الأهداف الأمريكية سيدفع الولايات المتحدة إلى الرد. بلينكن أشار خلال خطاب ألقاه فى اجتماع خاص لمجلس الأمن القومى، إلى أن الولايات المتحدة لا تبحث عن نزاع مع إيران. لكن فى حال استمرت إيران أو أذرعها بضرب أهداف أمريكية، فإن الإدارة ستعمل «بقوة وسرعة». تضاف إلى هذا أيضا التحذيرات التى كررها الرئيس بايدن، وضمنها خلال زيارته لإسرائيل، والموجهة إلى إيران وحزب الله، بعدم استغلال الفرصة للعمل ضد إسرائيل. وفعلا، ومباشرةً بعد هجوم «حماس» فى النقب الغربى، وبسبب قوة الضربة التى تعرضت لها إسرائيل وعدد الأشخاص المخطوفين، اعترفت الإدارة الأمريكية باحتمال خروج الحدث من مجرد جولة قتال إضافية بين إسرائيل و«حماس»، وأن يتدحرج إلى ساحات أُخرى. وبهدف ردع حزب الله وإيران، قامت بتعزيز رسائل الردع الحاسمة وزيادة القوات بشكل كبير فى البحر المتوسط. من جهته، أوضح زعيم إيران أنه بحسب المعلومات التى لديه، فإن سياسة إسرائيل العدوانية فى قطاع غزة صاغتها واشنطن، وهى التى تتحمل المسئولية عن أفعال إسرائيل.
• • •
حرب إسرائيل و«حماس»، قطعت الجهود التى كانت تجرى خلال الأسابيع الماضية بين الولايات المتحدة وإيران، بهدف تهدئة العلاقات فيما بينهما. أمِلت الإدارة بالنجاح فى الانتخابات القريبة من دون الحاجة إلى استثمار مواردها فى الموضوع الإيرانى، وإيران استفادت من الأموال التى حُرِّرت، ومن أن الضغوط بشأن خطتها النووية ستهدأ. وعلى الرغم من ذلك، فإن ما يُفهم من هذا الكلام هو أن الولايات المتحدة وإيران أيضا غير معنيتين بالانجرار إلى مواجهة مباشرة فيما بينهما. إلا أن التوتر المرتفع فى الوقت الحالى فى المنطقة يخفض كثيرا سقف انجرارها إلى مواجهة أوسع. يبدو أن كل طرف يبحث فى حدود حساسية الطرف الآخر. الإدارة الأمريكية تشدد على أنها لن تمر مرور الكرام فى حال استمر الهجوم على مواقعها، وخصوصا إذا وقعت إصابات فى الأرواح. إيران، من جهتها، تدعى أنها لا تسيطر على التنظيمات فى العراق وسوريا، لكن الإدارة شددت على أنها تعلم بأن طهران هى التى منحت هذه التنظيمات الضوء الأخضر للاستمرار فى الهجوم.
بدء الهجوم البرى للجيش فى الأيام الماضية يمكن أن يزيد فى الضغط على حزب الله والمنظمات الأُخرى المدعومة من إيران فى المنطقة للرد، وبذلك، يمكن أن يزداد التوتر بين إيران وبين الولايات المتحدة. حقيقة أن الإدارة تتعامل مع إيران كمسئولة عن الضربات ضد المواقع الأمريكية، تضعها كهدف ممكن للرد. وفى هذا السياق، فإن تحذير مستشار الأمن القومى جيك سوليفان يوم 29 أكتوبر الماضى، بأن بلاده سترد، فى حال هاجمت إيران جنودا أمريكيين، مهم جدا.
منذ الآن فصاعدا، ستعتمد التطورات على مدى تصميم الإدارة الأمريكية على ترجمة الخط الأحمر إلى خطوات هجومية تنفّذها. والأهم من ذلك، ستعتمد على تقديرات القيادة الإيرانية، وبصورة خاصة المرشد الأعلى خامنئى، الذى يعبّر دائما عن تجنُّبه الدخول فى مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة، وأنه يأخذ تهديدات الإدارة بجدية.
هناك عدة أمور تؤخذ بعين الاعتبار خلال اتخاذ الرئيس بايدن القرارات، وإلى جانب الحاجة إلى حماية الجنود الأمريكيين، هناك أيضا صورة الولايات المتحدة بين حلفائها فى المنطقة. حساب آخر هو مكانة الرئيس الشخصية الذى يفتتح سنة انتخابية للرئاسة، والرغبة فى استخلاص العبر السلبية التى لحقت بمكانة الولايات المتحدة والثقة بها، بعد تراجُع الرئيس أوباما عن استخدام التهديد العسكرى الذى وجّهه إلى سوريا، فى أعقاب تخطّيها الخط الأحمر بشأن استعمال السلاح الكيميائى.
لذلك، وبسبب الإصرار، الذى يُظهره بايدن، على ضرورة قتال «قوى الشر»، بحسب تعريفه، وعلى الرغم من الرغبة فى منع التدهور، يمكن التقدير (بحذر) أن استمرار تحدّى الأهداف الأمريكية، سيؤدى إلى ردّ جدّى أكبر، وضمنه ضد إيران. لا يزال من المبكر التقدير ما إذا كانت التطورات فى الشرق الأوسط ستدفع بواشنطن إلى إعادة البحث فى مجمل العلاقات مع إيران، وضمنها فى سياق البرنامج النووى. وعلى الرغم من ذلك، فإننا نشك فى أن تتعامل الإدارة مع الملف النووى كعامل معرقل، إذا قدّرت أن إيران تخطت الخط الأحمر، بشكل يستوجب ردا قاسيا، وضمنه الرد العسكرى.
• • •
فيما يتعلق بإيران، الحديث يدور عن الامتحان الأول الجدى لـ«محور المقاومة» الذى بنته وطوّرته طهران. نجاح «حماس» فى فتح حرب، يُطرح على أنه إنجاز كبير وبداية «مسار انهيار إسرائيل». لذلك، فإن إيران ترى أنه من المهم منع الفشل الكامل، لذا فهى غير معنية بضربة كبيرة لحزب الله، ولذلك، هى تدعم السياسة التى يتبناها التنظيم، من دون الدخول فى معركة شاملة، وتحاول فصل نفسها عمّا تقوم به الميليشيات فى العراق وسوريا. الهدف المركزى لإيران، من دون علاقة لهجوم «حماس»، كان وسيبقى طرد الوجود الأمريكى من الشرق الأوسط، وخصوصا من العراق وسوريا. الهجمات ضد المواقع الأمريكية فى هذه الأيام، تخدم هذا الهدف الطويل المدى، وفى الوقت نفسه، تجعل مركبات محور المقاومة تساهم فى الحرب التى تخوضها «حماس». وفى إطار الجهود لردع واشنطن عن الرد، تلمّح إيران إلى إمكان مهاجمة القواعد الأمريكية فى الخليج، وهو ما يتعارض مع السياسة التى قادتها طهران خلال العامين الماضيين (التقارُب مع الإمارات والسعودية). صحيح أن إيران غير معنية بمواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة، لكن هناك شكا فى أنها ترى هذا الاحتمال وشيكا، وهو ما يمكن أن يشجعها على اتخاذ خطوات تدفع بالإدارة إلى الرد.
بعكس المصلحة الأساسية للولايات المتحدة وإيران، فإن للواقع الحالى احتمالات حقيقية بأن يؤدى إلى مواجهة مباشرة بين إيران وحلفائها وبين الولايات المتحدة. إذا فشل الردع الأمريكى، فسيكون هناك حاجة إلى ترجمة التهديدات التى ترسلها الإدارة إلى أفعال، وضمنها ضربات مباشرة ضد أهداف إيرانية. وكلما كانت الرسائل الأمريكية أوضح، كلما ارتفع احتمال أن تعمل إيران لمنع الانجرار إلى مواجهة، هى غير معنية بها، ولم تخطّط لها.
إلداد شافيط وسيما شاين
معهد دراسات الأمن القومى
مؤسسة الدراسات الفلسطينية