من هو العربى؟.. سؤال وجهه أحد المراسلين الأجانب لجمال عبدالناصر فى أوج ازدهار موجة القومية العربية. ففكر قليلا ثم قال: من كانت لغته الأم هى العربية، وقال المراسل الأجنبى..إنه رد جيد يكاد يكون التعريف الوحيد للعرب. فلا شىء يجمع العرب سوى تلك اللغة العجيبة التى استطاعت أن تصهر عرقيات مختلفة فى قالب ثقافى واحد؛ وقبل عبدالناصر بقرن ونيف من الزمان سؤل إبراهيم باشا ابن محمد على: أين ستتوقف فتوحاته؟ فقال: عند آخر شخص يتحدث العربية!!
وارتباط اللغة العربية بالدين الإسلامى لغة القرآن والصلاة ــ أضاف لها سحرا وقدسية ــ حتى شكلت ثقافة عربية إسلامية. ينتمى إليها المسلم وغير المسلم. فثقافة أقباط مصر هى الثقافة العربية الإسلامية.. وكثيرا ما نسمع عبارات قرآنية فى حديث زملائنا الأقباط مثل «لا حول ولا قوة إلا بالله» و«قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا» ومرافعات مكرم عبيد باشا البليغة كانت عامرة بالألفاظ القرآنية.. وأدباء لبنان العظام من الموارنة تأثروا أيضا بالقرآن، فنحن ننتمى إلى ثقافة واحدة تشكلت عبر قرون عديدة وأصبحت أمرا واقعا انعكس على اللغة والأدب والعادات والتذوق بوجه عام، حتى أن الفلاح الذى يحرث الأرض فى بلاد المغرب كان يغنى أغانى عبدالوهاب، وذلك فى عصر الراديو وقبل ظهور التليفزيون والفضائيات..
ولذلك لم تجد جامعة الدول العربية عند إنشائها ضرورة لتعريف «من هو العربى» ولم يتضمن ميثاقاها تعريفا «للدول العربية». ولم تواجه الجامعة مشاكل فى قبول الأعضاء الجدد بعد السبعة المؤسسين ــ إلا عندما تقدمت الصومال بطلب العضوية.. لذلك كان من شروط قبول الصومال أن تقدم تعهدا بالعمل على نشر اللغة العربية بين السكان واعتمادها لغة رسمية للبلاد.. ولم تنفذ الصومال هذا التعهد حتى الآن..
لذلك يمكن القول إن جميع الدول الأعضاء بالجامعة العربية باستثناء دول القرن الأفريقى ــ يمكن أن تجمعها مظلة القومية العربية وهى المرفأ الآمن لشعوب المنطقة ذات الانتماءات العرقية والدينية المختلفة.
فهل مازال للقومية العربية قلب ينبض.. أم إنها لفظت أنفاسها الأخيرة فى الجزائر؟
لعل كارثة 1967 هى أشد الصدمات التى منيت بها القومية العربية، لأنها زرعت فى نفس المواطن العربى مشاعر اليأس والإحباط والنقص، وكأنه أشبه بشاب قوى ثرى ينتمى إلى أسرة عريقة ثم اكتشف فجأة أنه لقيط وأنه أكذوبة؛ ثم جاءت معاهده السلام المصرية الإسرائيلية وما تلاها من انقسام عربى والتفاف الأنظمة العربية حول صدام حسين وجبهة الرفض وخروج مصر من النظام العربى ليوجه ضربه كادت تكون القاضية على ذلك النظام العربى.. حيث إن انسحاب مصر من قيادة النظام العربى أتاح لشخص مثل صدام حسين شغل هذه المكانة وسرعان ما قاد العالم العربى إلى كوارث عديدة على رأسها غزوه للكويت.
لقد كان المواطن العربى ينظر إلى الخلافات العربية قبل غزو العراق للكويت على أنها خلافات بين الأنظمة لا يمتد أثرها إلى علاقات الشعوب إلا فى النذر اليسير. حتى قطع العلاقات الدبلوماسية لم يكن يؤثر فعلا فى مجرى العلاقات، فعندما قطعت الدول العربية علاقاتها بمصر لم تتأثر علاقات مصر بتلك الدول باستثناء العراق؛ ففى السعودية مثلا طويت أعلام مصر ورفعت أعلام السودان على مقر السفارة المصرية واستمر العمل كما هو تحت مسمى قسم رعاية المصالح المصرية بالسفارة السودانية، بينما ظلت العمالة كما هى وظل التبادل التجارى فى مجراه الطبيعى؛ وكان ذلك هو الحال مع معظم الدول العربية. إلا أن غزو العراق للكويت أحدث جرحا جديدا يختلف عن سائر الجراح السابقة فقد أوصل الخلافات العربية إلى المواطن العربى العادى. ولأول مرة شعر المواطن الكويتى والخليجى بوجه عام أن هناك خطرا يتهدده هو شخصيا وليست حكومته، وإن الخطر يأتيه من داخل النظام العربى الذى من المفترض أن يحميه وأن الولايات المتحدة هى التى وفرت له الأمن الحقيقى. صحيح أن مصر وسوريا حاربتا لتحرير الكويت، ولكنه يعلم ــ أى المواطن الخليجى ــ أن وجود الوجه العربى المسلم كان ضروريا للغطاء السياسى للعملية حتى لا يقال إن السعودية والكويت استعانتا بغير المسلم فى قتال المسلم.
وانفرط العقد العربى وهرول الجميع نحو أمريكا.. وركزت الدول الخليجية تعاونها داخل مجلس التعاون الخليجى، وأدار المغرب العربى ظهره للمشرق، وانسحبت مصر من الساحة، وتوارت كلمة العالم العربى، وتم صك انتماءات جديدة مثل «الشرق الأوسط وشمال أفريقيا» الذى يشمل إسرائيل، ثم جاءت الطعنه الأخيرة فى قلب العروبة فى مشهد هزلى ومأساوى فى آن واحد على يد غوغاء من الجزائر. وأرجو ألا يسدل الستار الختامى ويشيع جثمان العروبة من ملعب كرة قدم.. وهناك أفكار وتساؤلات كثيرة أفرزتها كارثة كرة القدم ومشاعر مختلطة من الحزن والفرح واليأس والأمل. فقد سعدت مثلا بروح الانتماء إلى مصر لدى الشباب الذى كنا نظن بهم الظنون ثم الحماس المتدفق والغضب لكرامة مصر والمصريين وروح التعاون والتضامن والعمل الجماعى على الإنترنت والـ«face book» للدفاع عن مصر. هذه الروح لم نرها منذ أمد..
إلا أن الأمر الخطير هو ذلك العواء الإعلامى الذى انفجر ليصب جام غضبه على كل العالم العربى بأسره وعلى انتماء مصر العربى. قرأنا مقالات بعنوان «تسقط العروبة»، وآخر يطالب بعدم التفريط فى الدم المصرى هذه المرة، وثالث يطالب بالعودة إلى الهوية الفرعونية وعدم « تسول» هويات أخرى، وهناك من طالب بتسيير الجيوش دفاعا عن الدم المصرى!! فهل صحيح ما ذكرته النيويورك تايمز من أن الشعب المصرى لا يغضب إلا من أجل الرغيف والكرة؟ وإلا فلماذا نرى هذه الغضبة، ولماذا لم يخرج الشارع المصرى بهذا الحماس يوم علم بقتل إسرائيل للأسرى المصريين بشكل جماعى وبأسلوب بشع واعترافهم بذلك فى الفيلم التسجيلى الذى عرض فى العام الماضى باسم «روح شاكيد»؟ ولماذا لم ننفعل بنفس القدر لشهداء العبارة والدويقة وسائر المآسى التى لم يندمل جراحها بعد؟ وهل من المعقول أن تسقط العروبة «بشوطة كرة» وطوب ومطاوى حفنة من الغوغاء؟ وهل هكذا تضع الدول سياساتها القومية وإستراتيجياتها الأمنية؟... إن سياسة مصر الإقليمية إما أن تكون على أساس جغرافى أى تنتمى لدول الجوار الجغرافى بغض النظر عن الهوية القومية مثل مشروع الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أو على أساس دينى أو على أساس قومى، ولا شك أن أسلم الخيارات هو الخيار القومى العربى الذى نستطيع أن نستظل به جميعا، فهو الوعاء الذى يضم المسلم والمسيحى والأمازيجى والمارونى والكردى وسائر الأقليات الذين صهرتهم اللغة العربية فى ثقافة واحدة.
نعم للدفاع عن كرامة مصر والمصريين فى الداخل والخارج، ونعم لعدم التهاون مع كل من يسىء لكرامتهم.. ولكن لنفعل ذلك دون أن نهدم المعبد أو نضحك علينا دول العالم خاصة تلك الدولة التى ترقص طربا الآن وتطالب «بماتش آخر مماثل بين فتح وحماس»!!