قيل فى وصف ليبيا فى التاريخ القديم إنها كصندوق رمال وضع خصيصا على جانب الطريق الذى كان يتعين على الحضارات أن تسلكه فى طريق ذهابها وإيابها لتلقى فيه فائض إبداعاتها وفنونها وعقائدها. لم تحفظ الرمال أثرا مما ألقى فيها على مر القرون ولم تتغير. غاص التاريخ فى الرمال ولم يتبق منه فوق السطح إلا ما ندر.
بعد أربعين عاما اشتعلت ثورة أهلكت القذافى ونظامه. بحث الثوار والغرباء عن دولة خلفها القذافى أو ثروة أو منظومة فكرية، بحثوا وبحثوا بدون جدوى، لم يجدوا شيئا، اختفت كل الأشياء، حتى ملامح الوطن اختفت.
قبل أيام زحفت جماعات مسلحة تنتمى إلى مدينة مصراتة على العاصمة طرابلس واطلقت الرصاص على متظاهرين يطالبون بإخراج المسلحين من المدينة. سقط أكثر من 43 قتيلا ووقع 560 جريحا، فكان الحادث الأكبر منذ هلاك القذافى وليس الوحيد. سبقه هجوم على القنصلية الأمريكية فى بنغازى واختطاف على زيدان رئيس الوزراء. لا غرابة ففى ليبيا حيث يبلغ عدد السكان حوالى الخمسة ملايين يقدر عدد المتمردين بحوالى 220 ألفا، بمعنى آخر 4٪ من سكان ليبيا متمردون وأعضاء فى ميليشيات مسلحة. ومع ذلك يوجد فى ليبيا أكثر من 170.000 جندى يحصلون على رواتب منتظمة. جيش لا يعمل، فضباطه من فلول القذافى وجنوده من شباب التمرد.
التدهور مستمر والاسباب معروفة. القذافى الذى ادعى أنه يستولى على الحكم ليقيم «دولة حديثة»، كان هو نفسه الذى تبنى وقاد ثورة ثقافية هدفها تفكيك مؤسسات الدولة واستبدالها بمؤتمرات شعبية. من رحم هذه المؤتمرات خرجت التنظيمات المسلحة التى تهيمن على البلد.
من ناحية ثانية، تدخل حلف الأطلسى بدون خطة مناسبة لتفادى هذا النوع من الفوضى، فضلا عن أن بريطانيا وفرنسا انشغلتا بتوزيع الغنائم وطرد المصالح التركية - الروسية.
من ناحية ثالثة، تدخلت أطراف عربية بعشوائية ونوايا متفرقة أو مبيتة فأمدت البلاد بأنواع من الأسلحة غير اللازمة لثورة، بل وغير لازمة لدولة فى حجم ليبيا وظروفها. هذا الخطأ تتشارك فيه الأطراف العربية مع الأطراف الدولية التى هيمنت على سماوات ليبيا وشواطئها وطرقها، وهى أطراف لم تفكر إلى أبعد من قدميها وأهدافها العاجلة. تجاهلت حقيقة أن ليبيا دولة مفتوحة على عديد الثورات والأزمات والتوترات. تجاهلت خطورة تسرب هذا السلاح إلى دول غير مستقرة مثل تشاد والنيجر والسودان ومصر وتونس والجزائر.
من ناحية رابعة، أخطأت الأمم المتحدة حين أرسلت وفدا غير مؤهل وجاهلا بليبيا يتصور أن فى إمكانه إعادة بناء «الأمة الليبية» فى مرحلة حرجة. كان الفشل ذريعا ومازالت الأمم المتحدة ترفض الاعتراف بمسئوليتها عن تدهور أوضاع ليبيا.
أسر لى صديق عربى مطلع على تطورات التدهور فى ليبيا بأن الأمل الوحيد فى خلاص ليبيا وجاراتها خلال الشهور القادمة يكمن فى إغلاق كل حدودها بقوات دولية وعربية.
عام مستحيل.