أزمة صحافة أم ماذا؟ - صحافة عربية - بوابة الشروق
الأحد 22 ديسمبر 2024 12:59 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أزمة صحافة أم ماذا؟

نشر فى : الأربعاء 3 يناير 2018 - 10:10 م | آخر تحديث : الأربعاء 3 يناير 2018 - 10:10 م
نشرت صحيفة القدس العربى اللندنية مقالا للكاتب «إلياس خورى» جاء فيه: أقفلت جريدة «السفير» فى بيروت، فحاولت «الاتحاد» الحلول مكانها، لكن تجربة «الاتحاد» لم تصمد سوى شهرين، هكذا التحقت النسخة بالأصل، واختفت جريدتان بدلا من أن تختفى جريدة واحدة.

ماذا يجرى للصحافة اللبنانية التى تعيش ما يشبه المأتم الدائم. منذ أزمة جريدة «النهار» التى انفجرت منذ تسع سنوات، والصحافة اللبنانية تُجَرْجَرْ فى دروب الألم الوعرة. «النهار» لم تعد نهارا على اللبنانيين أن يفتتحوا صباحهم بها، والجريدة المنافسة أى «السفير» اختفت بشكل غامض نتيجة أزمتها المالية، وما تبقّى لا يعدو أن يكون محاولات متعثرة لا شكل لها، باستثناء جريدة «الأخبار»، التى صاغ نبرتها المهنية جوزف سماحة، والتى صارت اليوم جريدة الممانعة وحزب الله شبه الرسمية.

ماذا جرى؟
كيف تهاوت إحدى أعرق التجارب الصحافية فى العالم العربي؟ وأين ذهب تراث مهنى صنعه صحافيون من أمثال كامل مروة وسعيد فريحة وغسان توينى وسليم اللوزى، وكوكبة من الأسماء اللامعة التى صنعت من صحافة لبنان مرآة العالم العربي؟

الجواب السهل عن سؤالنا الصعب يقول: إنه الإنترنت وثورة الاتصالات والتحول الهائل فى البث التلفزيونى بعد ظهور الأقمار الصناعية.

لكن هذا الجواب برغم أنه يحمل شيئا من الحقيقة، ليس كافيا. صحيح أن الصحافة الورقية فى العالم بأسره عانت نتيجة التطور التكنولوجى الكبير، لكنها استطاعت أن تستمر، محدثة تغييرات بنيوية على طريقة عملها. أما هنا، فالصحافة اختفت تقريبا، محدثة فراغا تملؤه الفضائيات اللبنانية والعربية بمزيج يجمع التحليل السياسى الجاد وهو نادر، بالسماجة والتحريض والخفة.

ربما كان غسان توينى هو أول من شعر بالخطر، ففى أحد اجتماعات أسرة تحرير «النهار»، وكنت قد بدأت عملى للتو فى الجريدة رئيسا لتحرير «الملحق»، علّق توينى بلغة لا تخلو من المرارة على قرار رفيق الحريرى تأسيس جريدة يومية هى «المستقبل»، قائلا: «قلت للشيخ رفيق: المصارى ما بتعمل جرايد، الجرايد بتعمل مصارى».

يومها كان توينى صديقا للحريرى الذى صار مساهما فى «النهار»، لكن هذه الصداقة السياسية والمالية بين الرجلين، لم تدفع ناشر «النهار» إلى ممارسة أى ضغط على «الملحق» الذى كان يقود حملة المثقفين والمعماريين والفنانين اللبنانيين ضد مشروع «سوليدير».

لم أفهم سبب مرارة توينى، لكن أغلب الظن أن الرجل كان واعيا لأخطار المال السياسى الذى قرر التخلى عن الوسيط الصحافى لينشئ صحافته، لأن ذلك سيترك آثارا مدمرة على المهنة.

وفى لقاء بين ناشر «النهار» وأسرة تحرير «الملحق»، اقترحنا تطوير التجربة، وتحويل «الملحق» إلى جريدة أسبوعية ثقافية عربية، فكان جواب توينى: «بدك يانى نافس الملك فهد بن عبدالعزيز ويخترب بيتي». وطُوى الاقتراح.

أعتقد أن هاتين اللحظتين تلخصان مآلات الصحافة اللبنانية التى دخلت فى تدهور بطيء ما لبث أن تسارع بشكل مخيف، وانعكس ذلك بشكل واضح على «النهار»، التى فقدت بمرض توينى ثم موته آخر ركيزة مهنية لها.

المسألة التى أشارت إليها ملحوظتا؛ المؤسس الثانى لجريدة «النهار»، الذى نجح فى تحويل صحيفته إلى الأولى لبنانيا وعربيا، كانت عن علاقة بالمال السياسى الذى قرر أن يخوض حلبة الصحافة بشكل مباشر بهذا التدهور. صحيح أن «النهار» لم تكن يوما بريئة من المال السياسى، لكن هذا المال كان يتم تقنين تأثيره فى قناة مهنية وسياسية صارمة. فـ «النهار» برغم ليبراليتها وانفتاحها على أقلام يسارية، لم تخف يوما موقفها السياسى الواضح كصحيفة يمينية تعبّر عن النظام اللبنانى القديم مع نبرة إصلاحية ليبرالية. حتى «السفير» التى كان المال الليبى مصدر تأسيسها وتمويلها نجحت فى بلورة خط مهنى سياسى صنع حريتها النسبية، وذلك بفضل مهنية العاملين فيها من طلال سلمان إلى بلال الحسن وإبراهيم عامر وصولا إلى جوزف سماحة من جهة، والتصاقها بتجربة الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية من جهة أخرى.

المال السياسى كان جزءا من بنية الصحافة، كما هو واضح فى الجريدتين اللبنانيتين الكبريين، هناك إذا سبب آخر قاد إلى الكارثة، وحوّل المال السياسى إلى مرض الصحافة القاتل.

يجب أن نبحث عن هذا السبب فى الواقع السياسى اللبنانى، فلبنان القديم الذى كان يحتضر فى الحرب الأهلية مات بعد اتفاق الطائف، وحلت بحرياته كارثتان:

الأولى تمثلت فى المخابرات السورية التى لم تتورع عن احتلال الصحف بالقوة لفترة قصيرة كانت كافية لبث الرعب فى أوصال المهنة، وبداية هجرة الصحافة والصحافيين إلى الخارج. لكن تجربة الصحافة اللبنانية المهاجرة ما لبثت أن تلاشت أمام الصعوبات المادية، فورثتها صحف الخليج. إرهاب الصحافيين اتخذ شكل الاغتيالات من سليم اللوزى إلى سمير قصير وجبران توينى، وبهذا أعلن النظام الاستبدادى السورى قراره وأد الصحافة اللبنانية.

أما الثانية فحدثت بعد الاجتياح الإسرائيلى للبنان، حين فرض نظام أمين الجميل الرقابة المسبقة على الصحف. ومع الانهيار اللبنانى الذى أعقب اتفاق 17 أيارــ مايو مع إسرائيل، وتشظى لبنان فى الحروب الوحشية، وفى ظاهرة خطف الرهائن، صار الصمت هو سيد الحلبة.

فى الصمت جاء المال السياسى العارى ليقضى على ما تبقى من الحريات الصحافية ويلتهم الأقلام متعاملا مع الكتاب الصحافيين بصفتهم مُرتزِقة، وتحولت الصحافة العربية احتكارا للآلة النفطية.

الحكاية ليست مجرد حكاية مهنية، ولا تتعلق بسوق الإعلان المأزوم فقط، إنها أولا مسألة موت النظام اللبنانى القديم من دون أن يحل مكانه نظام سياسى جديد ثابت قائم على توازنات راسخة. فالنظام الذى يحكم لبنان اليوم هو نظام الحرب الأهلية النائمة، والنخبة السياسية هى مجاميع للصوص يتقاسمون الوطن الصغير الغارق فى بؤسه.
صحافـة لبـنان اليوم هـــى مرآة لبنان، وهنا تكمن المسألة.
التعليقات