يظن كثيرون أن الدفاع عن حقوق العمال فى العالم قد نشأ مرتبطا بالأنظمة الشيوعية،والحقيقة أن أول تنظيم نقابى سعى لتحسين أحوال العمال وطالب بتخفيض ساعات العمل هو منظمة «فرسان العمل» التى تأسست فى أمريكا عام 1869، وقد نجحت قياداتها العمالية فى تكوين هيئة للعمال عام 1886 تبنت دعوة لإضراب عام فى أول مايو من العام نفسه، ووقعت مصادمات دامية بين العمال والشرطة فى شيكاغو سقط خلالها عدد من القتلى والجرحى، وتم القبض على مجموعة من العمال ومحاكمتهم محاكمة صورية قررت إعدام خمسة منهم.
وعلى الرغم من احتجاج العمال فى كل عواصم العالم مطالبين بإعادة المحاكمة، فإن الإعادة لم تسفر عن براءة العمال الذين أعدم أربعة منهم بالفعل. وبعد ذلك استثمرت الأحزاب الاشتراكية فى اجتماعها الأممى الثانى عام 1899 غضب عمال العالم وقيامهم بالإضراب فى ذكرى هذا اليوم، وقررت اعتبار أول مايو من كل عام عيدا عالميا للعمال.
أما مظاهر الاحتفال بعيد العمال فى مصر فقد بدأت بتأثيرات اشتراكية عام 1924، وبالتحديد فى مدينة الإسكندرية، حيث نظم عمالها احتفالا كبيرا بمقر الاتحاد العام لنقابات العمال، ثم صاروا فى مظاهرة ضخمة انتهت بمؤتمر. وقد استمرت هذه الاحتفالات العمالية نقابية شعبية تتعرض للمقاومة ولم تأخذ طابعا رسميا إلا بعد وصول الرئيس جمال عبدالناصر إلى الحكم واستيعاب الثورة لحركة العمال، كما أن أول مايو لم يصبح عطلة رسمية يلقى فيها رئيس الجمهورية خطابا سياسيا أمام القيادات العمالية إلا فى عام 1964.
وربما كانت ملحمة «أول مايو» التى أنشدها الشاعر الكبير فؤاد حداد فى سجن الواحات أول مايو عام 1963 أحد العوامل القوية التى دفعت الرئيس عبدالناصر لاتخاذ قرار تحويل أول مايو إلى إجازة رسمية بداية من العام التالى، حيث إنه على الرغم من اعتقال عبدالناصر لفؤاد حداد بتهمة الشيوعية فى ذلك الوقت، فإنه قد امتدحه فى نهاية ملحمته لوقوفه فى صف العمال قائلا من بين ما قال: «قال التاريخ أنا شعرى أسود، قال السد أشكر العمال. معجزة عامل فى الجمهورية اللى رئيسها يقول أنا العامل. ومايو دلوقت مايو ويولية ثورة وقرار».
وقد بدأ الشاعر ملحمته الإنسانية العالمية التى تقع فى 28 صفحة من القطع الكبير يمزج فيها بين الشعر والنثر العاميين قائلا: «يا أول مايو عيد الورد والعمال مش كنت فى مبدأك يوم الشهيد، مش كنت ليل باكى، محزون فى طرحة أرملة، متعشى لقمة يتيم، صبحت يوم الغضب، يوم الاحتجاج، يوم العلم فى الطريق، صبحت يوم الكفاح وصبحت يوم النصر».
حيث يعترف حداد بأن دماء الشهداء الذين قتلوا وأعدموا فى أحداث 1886 بشيكاغو، هى التى مهدت الطريق لاحتفال العالم اليوم بعيد العمال:
إحنا ولادكم
يا آباء شهداء إحنا ولادكم
ياما تزحف تحت الأرض جدور
علشان الفرع يشوف النور
ويحط عليه ويشيل عصفور
بيغنى ليالى استشهادكم
وقد حرص الشاعر فى إطار إنسانى عالمى على تصوير الوضع المزرى للعامل المصرى أيضا فى تلك الحقبة قائلا:
على حبل حساس بيتمرجح بسقاله
وعرق دساس وكانت ستى غساله
بنى آدم ومش آله
ثم انتقل بعد ذلك إلى تصوير ما دار فى ذلك اليوم تفصيلا، حتى وصل إلى واقعة سجن العمال لمطالبتهم بحقوقهم، حيث يقول:
المطرقة ناحت على السندان
اتقسمت كتل الحديد قضبان
الرأسمالى بيملك الآله
الرأسمالى بيسجن الإنسان
الرأسمالى بيملك الآله
أغلال على استغلال على بطاله
يجعل حياتك يا فقير عاله
ويموتك ويبيع لك الأكفان
ثم ارتدى الشاعر بعد ذلك قناع أحد المسجونين المحكوم عليهم بالإعدام وكتب على لسانه خطابا طويلا لابنه قبيل إعدامه، يقول فى إحدى فقراته: «الإنسان لازم يتربط بأخوه الإنسان. المكن دلوقتى بيساعد بعضه، كل ترس بيحدف على التانى والسلعة بتتجهز فى رصة واحدة. أقدر أقول لك إحنا أقرب لبعضنا من المكن. تقول لى بالطبع. والحياة بتؤلمنا والموت بيؤلم ولادنا! نعمل إيه؟ نبدأ من البداية، نغير الحياه أولا، ونورث ولادنا حياة أفضل».
ثم انتقل الشاعر وهو ما زال مرتديا قناع العامل المحكوم عليه بالإعدام بتوجيه الخطاب إلى الجناة المتسببين فى قتله، والذين حصرهم النص فى القاضى ومستر ماكورميك صاحب مصنع الجرارات ومدير البوليس، حيث توعدهم قائلا:
أنا اللى تحت الثرى حاقلق مضاجعكم
ماضى وحاضر ومستقبل حاراجعكم
أولها من أوله مايو ومواجعكم
أنا كنت عامل وكان أملى حليب صافى
قاسى الملامح رقيق القلب أوصافى
بدأتكم بالسلام وطلبت إنصافى
آدى ولادى يتامى
***
آمنا بالله وبالإنسان آمنا به
ولكن الوحش ما بنخلصش من نابه
دا اللى طلب منه وردية عمل فى اليوم
وزيها لراحتنا وزيها للنوم
لا عاد ينام ولا يتقلب على جنابه
لكن شهيد للأبد
فقد كان كل ما يطلبه العامل فى ذلك الوقت هو تحديد ساعات العمل بثمانى ساعات ليبقى مثلها للراحة ومثلها للنوم، ولكن بفضل تضحيات العمال المتواصلة عبر رحلة الكفاح الطويلة استطاعوا تحقيق مكاسب كثيرة من بينها تحديد ساعات العمل بسبع ساعات فقط، ولهذا فالشاعر يتغنى سعيدا بانتصار العمال فى نهاية ملحمته، حيث يقول:
إنت للفجر البدايه
وأنا لليل الختام
يا سلام بحر وقبل
بالصنايعيه وقبل
شفة الدنيا فى أول
مايو أول الابتسام
يد عامله ويد بانيه
وادى خطوه وادى تانيه
واحنا نقصنا التمانيه
واحنا عدلنا النظام
صحيت الدنيا ورأتنا
فى العلالى بمطرقتنا
والهوا مطاوع رايتنا
والفرس من غير لجام
كان هذا عام1963، أما هذا العام فيأتى عيد العمال متشحا باعتصامات عمالية على رصيف مجلس الشعب، وبتحريض أحد نوابه على ضرب المعتصمين بالرصاص، ولا أظن مطلقا أن الدولة أو المجلس الموقر سوف يسمحان بأن يعيد التاريخ نفسه، لأنه إذا أعاد التاريخ نفسه فما كان مأساة فى المرة الأولى يصبح مهزلة فى المرة الثانية.