باستثناء المصريين، لا يسبق أحد الإدارة الأمريكية قلقا وفضولا لمعرفة هوية واسم الرئيس المقبل. وأثبتت خبرة الستين عاما الأخيرة أن الرئيس المصرى يمثل حجر الأساس الأهم للعلاقات بين القوة الأكبر فى عالم اليوم من ناحية، وبين القوة الأكبر فى الشرق الأوسط من ناحية أخرى. ويثبت التاريخ أن ميول ورؤية رئيس مصر هى ما يدفع العلاقات بين الدولتين للأمام أو يرجع بها للخلف.
وكان لما آلت إليه نتائج المرحلة الأولى من حصر المنافسة الرئاسية بين مرشح جماعة الإخوان المسلمين، الدكتور محمد مرسى من ناحية، فى مواجهة الفريق أحمد شفيق، آخر رئيس وزراء فى عهد الرئيس السابق حسنى مبارك، من ناحية أخرى، نتائج مربكة لصانع السياسة الأمريكى حيث ترك بين بديلين أحلاهما مر.
رئاسة مرسى تعنى لواشنطن أن عليها التعامل مع إطار مختلف للحكم فى مصر يقع على النقيض مما ألفته واشنطن خلال سنوات حكم مبارك الثلاثين. ويعنى كذلك التعامل مع صفوة جديدة ذات مرجعية إسلامية غير مضمونة التوجهات ضد المصالح الأمريكية فى مصر والشرق الأوسط. وكان لما ذكرته بعض أصوات داخل الكونجرس من أن العلاقات بين الدولتين ستتضرر حال وصول رئيس إسلامى لحكم مصر، أثره الكبير على تدعيم هذا التصور.
أما رئاسة شفيق فتعنى لواشنطن أن تغييرا لم يحدث فى مصر، وهو ما يبدو بديلا ممتازا للمصالح الأمريكية فى مصر وخارجها، إلا أن شبح عدم الاستقرار الذى قد تحضره معه رئاسة شفيق، وما تمثله من هزيمة كبيرة للثورة المصرية بما قد يعود معه التظاهرات المتكررة سيزيد الضغط على شفيق ويجعله عاجزا عن القيام بالدور الذى قام به رئيسه السابق مبارك تجاه المصالح الأمريكية.
ومن المعروف أن العلاقات المصرية الأمريكية متشعبة، وتحكمها مصالح وحسابات عديدة، ولذا لا تميل واشنطن رسميا أو علنيا إلى شخصنة علاقاتها الهامة والإستراتيجية مع مصر، أو اختزالها فى الرهان على فريق أو شخص ضد آخر.
ورغم ما تبديه واشنطن من انفتاح كبير على جماعة الإخوان المسلمين خاصة فى الشهور الأخيرة، إلا أن احتمال اختلاف توجهات رئاسة مرسى عن توجهات رئاسة مبارك فيما يتعلق بملفات السياسة الخارجية الأساسية مثل مستقبل العلاقات المصرية ــ الإسرائيلية، ومستقبل العلاقات المصرية ــ الإيرانية، والتعاون الأمنى بين واشنطن والقاهرة، يرفع من سقف القلق بشأن بوصلة السياسية الخارجية لمصر بعد انتخاب رئيس جديد من جماعة الإخوان المسلمين.
ويرى الكثيرون من خبراء واشنطن أن سنوات العلاقات الجيدة والمتينة بين دولتهم ومصر انتهت، ولابد من إعادة التفكير فى إستراتيجية جديدة لعلاقات مغايرة مع مصر ومع رئيسها الجديد. إلا أنهم يعجزون عن تقديم بديل مستقبلى لعلاقات مختلفة تجمع بلادهم بمصر الديمقراطية التى يفترض فيها أن تتغير قياداتها السياسية دوريا، وما قد يتتبعه ذلك من إمكانية تغيير توجهات السياسة الخارجية المصرية كذلك.
خلال حكم مبارك حرصت واشنطن على الحفاظ على أهدافها الكبرى فى المنطقة من خلال تحالف قوى مع القاهرة، وارتبط بهذا التحالف وهذه الأهداف تلقى الجيش المصرى مساعدات عسكرية بصورة مستقرة منذ نهايات سبعينيات القرن الماضى استقرت مؤخرا عند معدل 1.3 مليار دولار سنويا.
يقلق واشنطن أن ينتج عن الانتخابات الرئاسية وجود رئيس مصرى منتخب ضعيف. وتعكس هذه المخاوف نقطتين هامتين، أولهما يعكس إدراكا متزايدا لحجم الضعف الذى وصلت إليه الدولة المصرية، وثانيهما يتعلق بخطورة تشكيك بعض فئات الشعب المصرى فى «شرعية الرئيس القادم لمصر»، خاصة لو كان شفيق.
إلا أنه لا يجب أن يفهم من الاهتمام الأمريكى بمصر أن واشنطن تقدر على التأثير فى مستقبل الحكم وهوية الرئيس القادم. ورغم ما تزخر به واشنطن من مؤتمرات وندوات ودراسات لسيناريوهات انتقال السلطة، والتساؤل حول هوية ساكن القصر الجمهورى القادم، إلا أن هذا يعكس فقط قوة وأهمية مصر ودورها الإستراتيجى للمصالح الأمريكية، ولا يعكس قوة فعلية تتمتع بها الولايات المتحدة فيما يتعلق بمستقبل حكم مصر.
تطرح بعض الوجوه فى واشنطن دعوات متكررة لإدارة الرئيس أوباما بأن يذكر المصريين أن لواشنطن مصالح عليا فى مصر وخارجها، وأن اختيارهم للرئيس الجديد قد يؤثر على هذه المصالح، وعليه سيدفع المصريون ثمنا لاختياراتهم. وعلينا نحن من جانبنا أن نحدد بوضوح أهداف الدولة المصرية الجديدة من علاقاتها بالولايات المتحدة بعيدا عن هوية وميول الرئيس الجديد سواء كان مرسى أو كان شفيق.
يوم 21 يونيو ستترقب واشنطن إعلان اسم الحاصل على أكبر عدد من الأصوات الصحيحة والفائز بمنصب رئيس الجمهورية فى مصر. وعلى هذا الرئيس الجديد أن يضع أهدافا واضحة تحدد طبيعة العلاقات التى ستجمع القاهرة بواشنطن بعد انتخابه. وسواء أصبحت تلك العلاقات خاصة أو عادية أو أقل من العادية، فلابد أن تبتعد عن مزاج الرئيس، وأن تعكس فقط مصالح الدولة المصرية الاستراتيجية. ويسلح الرئيس المصرى الجديد رأيا عاما قويا ومؤثرا لم يكن له وجود خلال حكم الرؤساء السابقين.
ويطرح هذا كله عدة تساؤلات حول ضرورة البحث عن طريقة جديدة غير تقليدية لإدارة القاهرة علاقاتها مع واشنطن؟ ويجب أن يستعد الرئيس الجديد لتوفير إجابات عن أسئلة قديمة مثل هل سيقدر رئيس مصر الجديد على تحييد أو على الأقل تقليل البعد الإسرائيلى فى علاقاتنا بواشنطن؟ وهل سيملك الرئيس الجديد من الشجاعة ما يمكنه من رفض المساعدات الاقتصادية والعسكرية الأمريكية جملة وتفصيلا؟ وهل سيجرؤ الرئيس الجديد على زيارة طهران فى أول أسابيع حكمه؟ وهل سيخلِّص الرئيس الجديد مصر من عبء خصوصية العلاقات مع واشنطن؟