ينبع نهر بوتوماك من ولاية فيرجينيا الغربية، وتحديدا من منطقة فيرفاكس ستون الجبلية، ليقطع الولاية ويمر بعدها بولايات بنسلفانيا وفيرجينيا وميريلاند ومقاطعة كولومبيا حيث تقع العاصمة واشنطن، وذلك قبل أن ينتهى فى مصبه على المحيط الأطلسى.
تاريخيا، لعب نهر بوتوماك دورا مهما كطريق نقل حيوى للمستوطنين الأوروبيين الأوائل، ومَثل النهر حدودا طبيعية بين المستعمرات الجديدة والولايات الجديدة قبل نشأة الدولة الأمريكية. وفى أثناء الحرب الأهلية الأمريكية التى اندلعت عام 1860، أصبح النهر خطا فاصلا بين الشمال الفدرالى، والجنوب الكونفدرالى خلال الحرب الأهلية. يرتبط النهر بأول رئيس أمريكى، جورج واشنطن الذى ولد على ضفافه، وسكن بجواره، واعتبره ممرا مائيا رئيسيا للتوسع غربا لضم المزيد من الأراضى للدولة الأمريكية الوليدة.
ويرتبط الرئيس الحالى، دونالد ترامب بالنهر التاريخى بصورة مختلفة عن جورج واشنطن، إذ يمتلك ترامب ملعبا جميلا للجولف يقع على ضفاف النهر فى منطقة سيرلينج بولاية فيرجينيا المجاورة لواشنطن، ويشمل النادى كذلك ملاعب تنس وحمامات سباحة ومطاعم، وقاعة حفلات.
قبل أيام وبعد اصطدام طائرة مروحية عسكرية بطائرة ركاب مدنية فوق النهر قبالة مطار ريجان الوطنى، وهو ما نتج عنه مقتل ركابهما الـ 67، عبر ترامب عن أسفه لوقوع هذه الحادثة. ورد ترامب أمام الصحفيين فى البيت الأبيض على سؤال عما إذا كان سيزور موقع تحطم الطائرتين فى نهر بوتوماك، أجاب الرئيس ترامب ساخرا: «أذهب إلى أين! ما هو الموقع؟ هل تريدنى أن أذهب للسباحة؟».
بالطبع لم يكن المقصود أن يذهب ترامب للنهر ذاته، بل للجهة المقابلة حيث تمركزت فرق البحث عن جثث الضحايا، وانتشال أجزاء الطائرتين، وهو ما شارك فيه مئات الفرق المتخصصة فى الدفاع المدنى، أمام المئات من عائلات الضحايا ممن انتظروا ليعرفوا مصير ضحاياهم.
استغرب الكثيرون رد الرئيس الأمريكى غير المناسب، واعتبروا أن هذا الرد لا يعكس إلا طبيعة الرئيس المختلفة، بل والمجنونة لدرجة التطرف كما يحدث فى الكثير من المواقف والحالات.
• • •
من سخرية القدر أن يصبح ترامب رئيسا لأكبر وأقوى دولة فى العالم، ومن سخرية السخرية أن يتم إعادة انتخاب ترامب لفترة حكم ثانية بعد حكمه أمريكا لأربع سنوات بين 2017-2021، وبعد اقترابه من دخول السجن خلال الأشهر السابقة على فوزه بانتخابات 2024.
من أهم الامتيازات الخاصة لكونك رئيسا للولايات المتحدة هو أن الناس فى مختلف بقاع الأرض يجب أن يأخذوا ما تقوله على محمل الجد بغض النظر عن سخفه، وهكذا هو الحال مع اقتراح ترامب بأن تسهل واشنطن التطهير العرقى لقطاع غزة، والمشاركة فى جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب التى تقترفها إسرائيل بحق أهل قطاع غزة، وذلك بتهجير سكانها إلى مصر والأردن.
فى أثناء تواجدى داخل البيت الأبيض خلال المؤتمر الصحفى المشترك لترامب مع رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو دار بخاطرى هواجس عديدة ومتناقضة حول شخص الرئيس الذى أقف فى القاعة الشرقية بالبيت الأبيض على بعد 7 أو 8 أمتار منه بشحمه ولحمه. حاول ترامب بعث رسائل اليأس للجانب العربى والفلسطينى، وهذا اليأس مفهوم بعمق ولا يشعر به إلا من يستبق ويبشر بهزيمته المحققة.
فاجأ ترامب أقرب مساعديه عندما قال وكرر إن الولايات المتحدة «ستسيطر» على غزة المسحوقة والفقيرة؟ وما الذى يجب التفكير فيه بعد اقتراحه بنقل سكانها البالغ عددهم مليونى شخص (المصممون على البقاء هناك) إلى مكان آخر، وسنشرع فى بناء «ريفييرا الشرق الأوسط»؟ ما يمكن قوله عن اعتقاد ترامب بأن هذا «يمكن أن يكون رائعا للغاية. سنتأكد من أن الأمر يتم على مستوى عالمى؟».
بالطبع، يسارع الكثير منا إلى استنتاج أن ترامب مجنون! لكن الحقيقة أنه ليس بمجنون. إنه يرمى الكرة فى ملعب المقابلين له فى الناحية الأخرى.
• • •
منذ ظهور ترامب على الساحة السياسية عام 2015، تساءل الكثير من المعلقين الأمريكيين والخبراء المؤهلين طبيا وغير المؤهلين عما إذا كان ترامب، ولو من الناحية السريرية فقط، مجنونا. فى ضوء المؤتمر الصحفى الذى عقده مع نتنياهو، أصبح السؤال فجأة أكثر أهمية. بعد المؤتمر الصحفى بوقت قصير، كتب ديفيد ريمنيك بمجلة «النيويوركر» مقالا عنوانه «جنون دونالد ترامب». ومع ذلك، تكهن ريمنيك بأن تصريحات الرئيس فى المؤتمر كانت مثالا على «لعب ترامب دور المجنون» لابتزاز تنازلات من كل من الحلفاء والمعارضين.
قبل مائتى وأربعين عاما، لم يتوقع الآباء المؤسسون للدولة الأمريكية عندما اجتمعوا للاتفاق على شكل الدولة الجديدة، وطبيعة الدستور، وعلاقة الحاكم بالمحكومين أن يصل شخص مثل دونالد ترامب لسدة الحكم.
وعن سبب القيام بهذه الأعمال التعسفية وإصدار التصريحات العشوائية، لجعل الآخرين يقبلون ما لا معنى له ويعتبرونه عمليا، لا أجد إلا كلمة «عدمية» كرد مناسب فى شق من محاولة الفهم. وهناك شق آخر أن ترامب لا يكترث بحياة الآخرين، فى نظره حياة أهل غزة أو غيرها.
عندما سُئل ترامب عن السلطة التى خولت له القول إن من حقه السيطرة على قطاع غزة، رد بثقة وقال السلطة الأمريكية! ما الذى يجب على قادة دول المنطقة العربية فعله فى مواجهة هذا الرئيس. لا شىء إلا مواجهته علنيا وبصوت عال ومسموع، والاستعداد لمعركة لن يخوضها، لأنه يعتمد فى حل خلافاته على التنمر بدلا عن المواجهة المباشرة والعلنية، ويدرك أن نجاحه لا يعتمد إلا على إرهاب خصومه وتخويفهم بما لا يملكه ولا يقدر عليه.
وفى النهاية، على الجانب العربى عدم الوقوع فى فخ ترامب، والتورط فى دفع ثمن العدوان الإسرائيلى على غزة، وتحمل تكلفة إعادة بناء القطاع، وإدارته، بل وتأمينه.