داهمنى خبر ذلك الحادث المأساوى الذى راح ضحيته ثلاثة أطفال ذبحتهم أمهم، التى بلا شك غاب عنها وعيها الإنسانى واحتل رأسها فيضان من التفاعلات الكيميائية، تلك التى تحيل العقل إلى قنبلة موقوتة تنفجر فى أى وقت فكأنما حلت الساعة.
دون شك هى مريضة عقليا ونفسيا. الأمر الذى يجعلك تتعاطف معها وربما تجاوز حزنك على ما ألم بها وما ستواجهه فيما بعد إذا ما نجت من إصاباتها التى ألمت بها إثر محاولتها الانتحار تحت جرار زراعى صادفها فى طريقها، بعد أن خرجت إلى الطريق العام هاربة مما أقدمت عليه حزنا على الملائكة الصغار. فما بالك بما يحيق الآن بالأب الذى فقد أسرته بالكامل فى ظروف كارثية بينما كان وحيدا يجنى رزقه مغتربا.
ملف الصحة النفسية من أكثر ملفات الصحة أهمية، لكنه للأسف لا يحظى فى بلادى بما يجب أن يحظى به من اهتمام أسوة ببلاد العالم المتقدم. حتى حينما بدأ مشروع التأمين الصحى الشامل توقعت أن ينتبه القائمون عليه إلى الأمر لكن انتظارى طال ولم أحظ بأى معلومات تشيرإلى أن هناك علامة واضحة تشير إلى برنامج للصحة النفسية.
الوعى بحقيقة المرض العقلى أو النفسى هو حجر الزاوية فى الموضوع فتلك المسكينة بلاشك كانت ولفترة طويلة ضحية المرض النفسى الذى لم يتنبه المحيطون بها وأولهم زوجها بالطبع. هناك الكثير من الأمثلة لشخصيات تعيش بيننا وتمارس ألوانا من أطياف المرض النفسى بينما يمر الأمر بسهولة وقد يقبله المجتمع على أنه اختلاف فى الشخصية خاصة فى المجتمعات التى ينحسر فيها مستوى لتعليم ويتدنى الدخل.
كم من الأطفال يعاقبون بالضرب المبرح نظرا لشقاوتهم وحركتهم التى لا تهدأ وهم فى الواقع مصابون بفرط الحركة وتشتت الانتباه؟.
كمن من أطفال «التوحد» يعانون من الإهمال يوصمون بالعدائية والانطوائية بينما هم يتوقون للخروج من تلك الأقفاص الزجاجية التى تفصل بينهم وبين ما يعيشه أقرانهم من أحداث حولهم لكن كيف وهم ومقيدون إلى أقدارهم بسلاسل غير مرئية بالمرة لا ينتبه إليها أحد. حتى الأم لا تقابل بارتياح ذلك الصد الذى تجابه به حينما تقبل على أحتضان طفلها ولا تفهم لماذا لا ينظر فى عينيها كباقى الأطفال.
فى مجتمعاتنا نسعى دائما لتشخيص أمراض الجسد بينما أمراض النفس تلقى الكثير من ردود الأفعال التى تستمد أصولها من ثقافاتنا.
إذا ثبت أن هناك من يعانى من مرض نفسى كانت النصيحة الأولى التى توجه إليه أو لعائلته أن يواظب على الصلاة وقراءة القرآن.
لا شك فى أن هذا راحة نفسية عظيمة للإنسان السليم لكن مريض النفس سيداخله شعور بأنه مذنب لذا يجب أن يلجأ لله سبحانه يستغفره.
المرض النفسى يحتاج لعلاج بعد أن يتم تشخيصه، فعلاج الاكتئاب يختلف كثيرا عن الفصام على سبيل المثال. كما أن الاكتئاب ذاته تتعدد صوره وتتنوع علاجاته، لذا فالبداية دائما هى الأصل: التشخيص السليم يتبعه العلاج الناجح.
قد يتطلب علاج المرض النفسى بعد تشخيصه علاجا دوائيا أو علاجا معرفيا، لذا فهناك الطبيب النفسى الذى هو ملم بالمعلومات الطبية والبيولوجية والذى يمكنه وصف الأدوية وهو فى الأصل طبيب درس فى كليات الطب هناك أيضا الاخصائى النفسى الذى درس علم النفس فى الكليات النظرية ويقوم على تقديم خدمات وتوجيهات معرفية وسلوكية تفيد كثيرا من حالات مثل القلق واضطرابات النوم والمشاعر الاكتئابية.
هناك متخصص ثالث يمكن اللجوء إليه وهو المعالج النفسى ذلك الذى عليه دراسة التحليل النفسى بكل نظرياته ويعمل وفقا لتجارب عديدة متخصصة، فى النهاية فإن الأمراض النفسية مثلها تماما كأمراض الجسد تحتاج لتشخيص وعلاج حاسم حتى وإن استمر لفترات طويلة وهذا أمر وارد ولا يجب تجاهله.
فى السنوات الأخيرة تكررت تلك الحوادث الفاجعة منها ما اكتنفه العموض، ومنها أيضا ما حدث فى وضح النهار. فى كل مرة تقرع أجراس الإنذار وترتفع الأصوات محذرة منذرة لكن الأمر يظل عليه حتى إننا أصبحنا نعلن عن خلل فى عقل مرتكب مثل تلك الجرائم الدامية قبل الإعلان عن اسم القاتل والقتيل.
هناك من أمراض النفس ما يسبب أمراض الجسد فيما يعرف بالأمراض النفسجسمية مثل اضطرابات الجهاز الهضمى وآلام الصدر وآلام المفاصل والعضلات، هناك أيضا من الأمراض الجسدية ما يؤرق النفس فكل الأمراض المزمنة فى النهاية تؤدى للشعور بالكآبة. هناك ما يعرف أيضا باكتئاب ما بعد عمليات القلب المفتوح.
تسكن النفس الجسد فيظل الوفاق أمرا إنسانيا تحكمه الروح التى هى من أمر ربى. قد يدوم الوفاق أو يحل الشقاق فيختفى أو يظهر المرض. صحة النفس لا تختلف عن صحة الجسد كلاهما يهاجمه المرض الذى يحتاج دائما إلى تشخيص دقيق يتبعه علاج.
الأمراض النفسية لا تقل أهمية عن الأمراض الجسدية لذا يجب أن تهتم الدولة بصحة الجسد وبصحة النفس ولا تهمل الاخيرة على حساب الاولى. يجب أن تهتم الدولة بإدراج الأمراض النفسية فى برامج التأمين الصحى صورة جدية وأن تهتم بالتوعية بها فلا تفاجئ بأن أحباءنا من يعانى سرا من مرض نفسى تخفيه صحة الجسد واحتمالنا للغريب من سلوكياته دون التحقق من دوافعها الحقيقية المرضية.