عمل دافيد لام مراسلا لجريدة انجليس تايمز الأمريكية لسنوات عديدة، وكان مراسلها فى الشرق الأوسط ومقرها القاهرة فى أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، وعاصر الانسحاب الإسرائيلى من شبه جزيرة سيناء، كما تجول فى مخيمات صابرا وشاتيلا على إثر المذبحة الإسرائيلية لهما، وزار معظم الدول العربية، وغاص فى ثقافة المنطقة. وهو يرى أن الغرب يسىء فهم العرب ولا يعرف شيئا عن الإسلام، وقد كتب كتابا عن العرب بعد الهجوم الإرهابى على أبراج مركز التجارة وسماه «العرب.. رحلات فما وراء السراب».
THE ARABS.. JOURNEYS BEYOND THE MIRAGES
وقد تذكرت هذا الكتاب بعد أن استمعت إلى أوباما فى جامعة القاهرة يقول إن أول دولة اعترفت بالولايات المتحدة كانت دولة عربية مسلمة هى المغرب.. تذكرت هذا الكتاب وأخذت أقلب فصوله، وفى أحد هذه الفصول يتساءل المؤلف عن أسباب تدهور العلاقات العربية الأمريكية بالرغم من أنها بدأت بداية طيبة ومبكرة جدا. فقد بدأت مع بداية الثورة الأمريكية عندما كانت السفن الأمريكية ترسو فى ميناء طنجة وتجد ملاذا آمنا هربا من السفن البريطانية الحربية المعادية.. حيث كانت بريطانيا تعتبر حركة الاستقلال الأمريكى تمردا مسلحا على التاج يستوجب المقاومة والعقاب.
وكانت الولايات المتحدة «الجديدة» التى أعلنت استقلالها فى عام 1776 تبحث عن الاعتراف الدولى وكانت دول العالم تحجم عن الاعتراف بالجمهورية الجديدة مراعاة لبريطانيا الدولة العظمى فى ذلك الوقت، وتقدم السلطان محمد بن عبدالله الثالث سلطان المغرب ليقدم للولايات المتحدة الأمريكية أول اعتراف رسمى بها. كان ذلك عام 1777 أى بعد عام واحد من إعلان استقلالها وبذلك أصبحت المغرب هى أول دولة فى العالم تعترف بالولايات المتحدة الأمريكية، وفى العام التالى، وقعت معها معاهدة صداقة، مازالت سارية المفعول وتعد أقدم معاهدة دولية فى تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية. وقد كتب جورج واشنطن خطاب شكر إلى «إمبراطور» المغرب (سماه إمبراطور بدلا من سلطان) يشكره فيه ويعده بأن تكون الولايات المتحدة ذات المستقبل الواعد حليفا مهما له على مر السنين.. وتدعيما للعلاقات الودية مع الجمهورية الوليدة، قرر السلطان إهداء الرئيس الأمريكى اثنين من خيرة الجياد العربية وسلم الهدايا إلى القنصل الأمريكى فى طنجة المستر جيمس لايب.
وكانت ثانى دولة عربية توقع معها الولايات المتحدة معاهدة صداقة وتجارة هى سلطنة عمان فى عام 1833، وعلى إثرها قام السلطان سيد بن سعيد بإيفاد أول مبعوث دبلوماسى عربى إلى واشنطن وكان يدعى أحمد بن نعمان، الذى وصل إلى نيويورك فى أحد أيام شهر أبريل عام 1840 على متن الباخرة الشراعية «السلطانة».
فما الذى حدث لهذه البداية الجميلة القوية لعلاقات العرب بأمريكا؟ دعونا ننظر كيف يرى الأمريكيون الآن العرب.. ففى استطلاع للرأى العام قامت به جريدة ميدل إيست جورنال، وذلك قبل حدوث تفجيرات الحادى عشر من سبتمبر عام 2001، سألت فيه المشاركين أن يصفوا العرب بكلمة أو كلمتين فجاءت الإجابات هكذا: (برابرة، متوحشون، قساة، خونة، أغنياء، أما العربى فهو إما مليونير أو لاجئ أو إرهابى أو قائد إبل).
ويعزو المؤلف ذلك إلى أن إسرائيل وقوة الصهيونية المتحكمة فى أدوات توجيه الرأى العام من جانب، ثم إلى العرب أنفسهم.. بسبب قصص الأمراء الماجنة فى مواخير أوروبا وأمريكا، والأعمال الإرهابية المشينة وأخذ الرهائن، فضلا عن القصور الشديد فى الإعلام العربى، لا يستطيع العرب شرح وجهة نظرهم للعالم، بل هم يكتفون بالعويل والصراخ والانتقاد والركون إلى نظريات المؤامرات. وكصحفى عمل فى كل من إسرائيل والدول العربية، يقول المؤلف إن المقارنة صارخة.. ففى إسرائيل توجد عدة تليفون حمراء على مكتب كل مراسل أجنبى تدق عندما تريد الحكومة الإسرائيلية إبلاغ شىء إلى العالم، كما أن ممثلى الحكومة فى جميع القطاعات يسارعون إلى تلبية طلبات الصحفيين للتحدث للإعلام العالمى فى أى وقت، والصحفيون الأجانب يعاملون معاملة الـVIP. فبمجرد وصول الصحفى، بل بعد دقائق من خروجه من الطائرة، يأخذونه إلى جلسات تلقين صحفى مع كبار رجال الدولة والمعارضة.. بينما فى العالم العربى فإن تأشيرة دخول الصحفى قد تأخذ أسابيع، بل شهورا أحيانا.. وبعد وصولهم، يمكثون فى فنادقهم أياما فى انتظار بطاقة الاعتماد من وزارة الإعلام.. وبعض الدول العربية لديها متحدث واحد.. والجميع يتجنبون الموضوعات الخلافية.
وبالرغم من أن تعداد الجالية العربية فى أمريكا يصل الآن إلى نحو المليون ونصف المليون- أى نصف عدد يهود أمريكا- فإن صوتهم لا يكاد يسمع ونفوذهم لا يقارن بالنفوذ اليهودى الكاسح. وقد وصل العرب إلى أمريكا فى هجرتين كبيرتين.. الأولى فى الثمانينيات من القرن التاسع عشر، وكان معظمهم من اللبنانيين الكاثوليك الموارنة، ومعظمهم من العمالة غير الماهرة التى تسعى لتحسين ظروفها الاقتصادية.. وهؤلاء سرعان ما نبذوا هويتهم العربية وقطعوا صلاتهم بالعالم العربى وحرموا على أولادهم الحديث بالعربية وذابوا تدريجيا فى النسيج الأمريكى.. أما الموجة الكبيرة التالية التى أسست الوجود العربى فى أمريكا فهى حديثة جدا، إذ بدأت على إثر حرب فلسطين عام 1948 ثم تلتها موجات أخرى فى الستينيات والسبعينيات من القرن الماضى، وهؤلاء قدموا من فلسطين وسوريا ومصر والعراق واليمن، وهم أحسن تعليما وأكثر تمسكا بهويتهم العربية ودينهم الإسلامى أو المسيحى. وقد قدمت الجالية العربية للمجتمع الأمريكى نجوما فى مختلف المجالات.. منها الدكتور مايكل دبيكى فى جراحة القلب، وبول عنقا المغنى الشهير، والبريمادونا روزاينالدا إلياس، وجون سنونو محافظ نيو هامبشير السابق، ومبعوث الرئيس الأمريكى السناتور جورج ميتشل، والسناتور فيليب حبيب، والشاعر العظيم جبران خليل جبران.. الخ. ومع ذلك فلم تستطع هذه المساهمات أن تمحو صورة العربى فى العقل الجمعى الأمريكى.. فمازالت العلاقة مع العرب أو التودد إليهم تعد من المخاطر السياسية فى السياسة الداخلية الأمريكية.. فكثير من المرشحين للرئاسة يعيدون التبرعات العربية إلى مرسليها، وما زلنا نذكر مرشح الرئاسة جوليانى الذى أعاد الملايين العشرة إلى الأمير الوليد بن طلال.
وعندما كان جورج بوش الأب يحضر لحملته الانتخابية قام بجولة فى عام 1986 فى الشرق الأوسط، بدأها بإسرائيل واصطحب معه طاقما من مصورى التليفزيون. وبعد انتهاء زيارته لإسرائيل عاد الطاقم التليفزيونى مباشرة إلى أمريكا، ولم يصحبه فى بقية جولته بالدول العربية، وعلق مسئول فى حملة بوش على ذلك «بأننا لن نكسب شيئا بالتصوير مع العرب». وشيئا فشيئا أصبحت الحملات الانتخابية الأمريكية لا تكتفى بالابتعاد عن العرب، بل تجاهر بالعداء لهم توددا للناخب الأمريكى.
أما أوباما فقد بدأ بالتودد للعالمين العربى والإسلامى بحثا عن بداية جديدة.. وهى خطوة قد تكلفه الكثير فى الداخل الأمريكى إذا لم تؤت هذه السياسة ثمارها.