الاسم الرسمى للقانون العنصرى الذى أصدره الكنيست الإسرائيلى منذ أيام قلائل هو «القانون الأساسى للدولة القومية للشعب اليهودى»، وقد وصفه نتنياهو بأنه «أهم القوانين التى صدرت منذ إنشاء دولة إسرائيل بعد قانون قيام الدولة العبرية»، ووصف لحظة صدوره بأنها «لحظة فارقة فى تاريخ الصهيونية وتاريخ دولة إسرائيل». إلا أن أصدق وصف لهذا القانون هو ما جاء على لسان الكاتب الإسرائيلى جدعون ليفى فى جريدة هاآرتس الذى وصفه بأنه «قانون الحقيقة» الذى وضع نهاية لضبابية الصهيونية وعرفها كما هى (أى كحركة عنصرية) وأنهى مهزلة الدولة اليهودية الديمقراطية.
فما الذى جاء به هذا القانون؟... خلاصة الأمر أن إسرائيل تعلن للعالم أجمع بموجب هذا القانون أنها دولة لليهود فقط، وأن الهجرة المسموح بها إلى إسرائيل هى لليهود فقط، وأن الذى يقرر مصير فلسطين ــ أو أرض إسرائيل ــ هم اليهود فقط. وأن القدس الكبرى الموحدة هى العاصمة الأبدية الموحدة للدولة اليهودية، وأن اللغة العبرية هى اللغة الرسمية الوحيدة للدولة ( بعد أن كانت العربية لغة رسمية أيضا) وأن التقويم الرسمى للدولة هو التقويم العبرى، وأن الاستيطان أصبح من مسئولية الدولة وعليها أن تتوسع فيه وتثبته وتشجع إقامته، وأنه على المحاكم الاحتكام للشريعة اليهودية إذا عجز القانون.
***
وهكذا فقد نزع هذا القانون عن إسرائيل ورقة التوت الأخيرة وإظهارها على حقيقتها.. دولة أبارتيد من الطراز العاتى وعارية تماما عن أى ادعاء، ولعل من أخطر ما أفصح عنه هذا القانون الأساسى ــ الذى يماثل الدستور ــ أنه استخدم تعبير أرض إسرائيل ERETZ ISRAEL وهو تعبير يعنى إسرائيل الكبرى أو الموعودة التى يحلم بها الصهاينة منذ قرون والتى قال عنها بن جوريون يوم إعلان قيام إسرائيل «إن إسرائيل قامت على جزء من أرض إسرائيل» كما أن الكتاب السنوى للحكومة الإسرائيلية لا زال يعرف إسرائيل بأنها جزء من أرض إسرائيل THE STATE OF ISRAEL IS PART OF THE LAND OF ISRAEL
***
وهكذا فقد حسم هذا القانون الدستورى – فهو فى حكم الدستورــ أهم قضايا الحل السلمى أخرجها عن نطاق التفاوض فالقدس بشطريها الغربى والشرقى وتوسعاتها ومستوطناتها هى العاصمة الموحدة لإسرائيل، وأزاح موضوع عودة اللاجئين الفلسطينيين لأن المسموح لهم بالعودة هم يهود الشتات، أما الاستيطان فقد أصبح شرعيا بكل صوره بل أن الدولة أصبحت ملزمة بموجب هذا القانون بدعم وتشجيع إقامته وتثبيته باعتباره قيمة قومية للدولة اليهودية.
كما أن القانون يسعى إلى تضييق الفرص أمام أى قومية أخرى (الفلسطينية العربية) لتأكيد ذاتها أو الحفاظ على تراثها وتاريخها وخصوصيتها بشكل جماعى، فعند إشارة القانون إلى التراث، ذكر أن الحفاظ على التراث والتاريخ والثقافة اليهودية هو من مسئولية الدولة، وبالنسبة للأفراد المنتمين لهوية أخرى غير اليهودية (العرب) يسمح لهم كأفراد بالحفاظ على هويتهم.. حيث جاء النص فى هذا الشأن على الوجه التالى» يسمح لكل مواطن ينتمى لهوية غير اليهودية أن يعمل على الحفاظ على ثقافته وتراثه ولغته وهويته».. ويلاحظ هنا أن الحفاظ على التراث اليهودى شمل التاريخ أما تراث المنتميين للهويات الأخرى (العرب) فلم يتضمن التاريخ.. وهكذا فإن القانون كان واضحا فى إغفال الإشارة إلى حق الأقلية العربية ــ كجماعة ــ فى العمل على الحفاظ على هويتها وثقافتها وتاريخها.
***
كثيرون من عارضوا هذا القانون وحذروا من تبعاته، وأكثر الأصوات الرافضة والمنتقدة للقانون كانت من داخل إسرائيل ومن المنظمات اليهودية فى الخارج، وأكثرها خفوتا كانت من العالم العربى.. ففى إسرائيل كان هناك انقسام واضح وقد صدر القانون بأغلبية ضئيلة (62 صوتا من مجموع 120) وبعد مجاذبات ومشادات دامت خمس سنوات.. والمعارضون فى إسرائيل ينتمون إلى تيارات متباينة فاليمينيون يرون أنه لا لزوم له، والأصوليون الدينيون يرونه متعارضا مع التوراة التى تحض على تكريم «الغريب» المقيم بينهم، واليساريون قاوموه بشدة لأنهم يرونه قد عرى إسرائيل أمام العالم وقنن العنصرية بشكل فاضح لا يماثله إلا نظام الفصل العنصرى (الأبارتيد) فى جنوب أفريقيا سابقا، وقد كتب أحد المعلقين الليبراليين يقول: «لن يكون لدينا بعد اليوم مكانا نختبئ فيه من عارنا» وذلك لأن اليساريين كانوا يفضلون استمرار سياسة الغموض فيما يتعلق بالاختيار بين الدولة اليهودية والدولة الديمقراطية أى التى تتساوى فيها الحقوق لكل مواطنيها، ولقد تصدى اليسار الإسرائيلى للقانون ونجح فى تعطيل صدوره منذ عام 2013، ولكن وصول ترامب للسلطة واعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل وصعود التيارات الشعبوية فى العالم بوجه عام، وانهيار سوريا والصمت العربى المدوى على جرائم إسرائيل.. كل ذلك أخفت الأصوات المعارضة.
***
أما ردود الفعل العربية الرسمية فقد جاءت متأخرة وضعيفة ولا تتضمن أى إجراءات عملية، فقد رفض البيان الصادر عن وزارة خارجيتنا القانون لتكريسه الاحتلال ولتقويض فرض السلام ولآثاره السلبية المحتملة على حق عودة اللاجئين (فى الواقع أنه أنهى حق العودة تماما وأعطاه ليهود الشتات فقط)، أما السعودية فقد طالبت المجتمع الدولى للتصدى لمسئولياته (هم وليس نحن)، بينما رفض الأردن القانون لأنه يكرس الفصل العنصرى ويبعد خيار السلام (وكأن لدينا خيارات أخرى) وقال لبنان: إنه عدوان على الشعب الفلسطينى (العدوان لم يتوقف منذ مائة عام فماذا نحن فاعلون؟).
أما الجامعة العربية فقد ذكرت أن القانون هو امتداد للإرث الاستعمارى وترسيخ للعنصرية.. وكأن كل المطلوب منا هو توصيف القانون وشرحه للناس وعلى المجتمع الدولى أن يتولى مسئولياته.
وقد انعكست ردود الأفعال العربية الهينة هذه على مواقف الدول الأجنبية فلم يخرج موقف الاتحاد الأوروبى عن التعبير عن القلق من هذه الخطوة التى قد تعقد حل الدولتين.. على الرغم من أن الجميع يعلم أن حل الدولتين أصبح فى حكم المستحيل عمليا، حتى إننى قرأت مقالا لأحد المراكز البحثية عنوانه «انسوا الدولتين.. فلنفكر فى الستة....» ينتهى فيه الباحث إلى إنشاء ستة كيانات تتمتع بالحكم الذاتى فى إطار اتحاد فيدرالى»..
***
بعد يومين من صدور القانون.. اقتحم خمسمائة متطرف صهيونى باحة المسجد الأقصى.. وقد دأب اليهود على اقتحام الأقصى بوتيرة متزايدة فى السنوات الأخيرة، ولكن اللافت للنظر هذه المرة هو العدد الضخم الذى يشبه الغزو.. وقد سأل مذيع القناة التى كانت تبث الخبر مراسلة القناة ألم تتصدَ لهم الشرطة؟ فأجابت بأنهم دخلوا فى حماية الشرطة، وأن مظهر المقاومة الوحيد هو قيام طفل فلسطينى برفع علم فلسطين فتم احتجازه واقتياده إلى السجن.
كم هو معبر هذا الموقف فهو صورة بليغة لموازين القوة ولما وصلت إليه الأمور.. فقد وجه هذا الطفل المقدسى بوقفته الصامتة صرخة مدوية فى آذاننا جميعا وأعطانا بصيصا من الأمل فى الأجيال القادمة.