مع مطلع القرن العشرين كانت الحداثة الأوروبية في أوج قوتها، الرأسمالية كانت في تصاعد مستمر، أفكار التحديث السياسي وتمثيل الشعوب ومساءلة السياسيين بدأت بدورها في الانتشار، صحب ذلك تطورات هامة في الفنون والعلوم الإنسانية كانت ممتنة للتحديث الأوروبي ولكن دون إغفال مساوئ هذا التحديث والمتمثلة في تزايد الطبقية بفعل رأسمالية مادية أغفلت الجانب الإنساني والروحي، بالإضافة إلى قمع جنسي للمرأة والفئات الأقل حظا، مع انتشار النفاق المجتمعي على نطاق واسع للغاية.
رغم نجاة المسيحية في القرن التاسع عشر من قمع النظم العلمانية ومحاولات الفصل الجامدة بين العام والخاص، الديني والمجتمعي، إلا أن هذا لم يكن بالضرورة كله خير، ففي أحيان كثيرة كانت محاولات المسيحية للنجاة والتأقلم مع ظروف التحديث المادية مدعاة لاستغلال الطبقات المسيطرة للأطر والمؤسسات الدينية من أجل السيطرة وهي المحاولات التي يشير لها علماء الاجتماع السياسي ب "تأميم الدين"، وهو ما يعنى باختصار أن ما أسسه صلح وستفاليا من تمكين الأمير من دين شعبه وحدوده القومية لم يختفى أثره تماما رغم موجات العلمنة التالية للثورتين الصناعية والسياسية في أوروبا. كان السؤال المطروح على الفنانين وعلماء الاجتماع والدارسين للعلوم الاجتماعية هو باختصار كيف يمكن الإبقاء على التوازن بين علمانية ديموقراطية غير متطرفة وبين دين غير مسيس ومؤمم يعمل على الإقصاء أو يدعم النعرات القومية؟
لم يتمكن أحد من تقديم إجابة وافية، فالفترة من ١٩١٤ وحتى ١٩٤٥ (ثلاثة عقود أو ما يزيد قليلا) حيث الحرب العالمية الأولى ثم فترة ما بين الحربين إلى نهاية الحرب العالمية الثانية شهدت أوروبا تراجعات مريرة لطريق التحديث الطويل الذى خاضته ببطيء منذ القرن السابع عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر، ثم بسرعة أكبر من منتصف القرن التاسع عشر وحتى بداية الحرب العالمية الأولى. ورغم أن لتلك المرحلة (١٩١٤-١٩٤٥) العديد من المكاسب لأوروبا ومن أهمها انهيار الإمبراطورية العثمانية رغم المحاولات المضنية التي بذلتها الأخيرة للتحديث واللحاق بركب التقدم والنهضة ولكن بعد فوات الأوان، ليس هذا فقط مكسبا لأوروبا بمعنى غياب أهم عدو حضاري وسياسي ولكن بمعنى أيضا كسب وريث جديد علماني متحيز بشدة للقيم الأوروبية ومتحاملا بشدة على القيم الإسلامية والعربية، هذا الوريث هو تركيا الأتاتوركية التي اتجهت وبعنف ناحية الغرب لتدير ظهرها لرقعة تاريخية سيطرت عليها واستقرت بها لمدة اقتربت من ٦٠٠ عام تقريبا!
***
بل والأهم من ذلك بالنسبة لأوروبا كان التمكن التام من مفاصل الرقعة العربية، فتم التقسيم البائس المصطنع للمنطقة العربية على منضدة جلس على طرفها دبلوماسي فرنسي يدعى فرانسيس بيكو وعلى الطرف الأخر دبلوماسي بريطاني يدعى مارك سايكس! كذلك فقد تم استغفال العديد من القيادات العربية السياسية والدينية في تلك الفترة ولعل أهمهم “الشريف حسين" الذي قاد ثورة عربية لطرد العثمانيين في مقابل اتفاق سرى مع بريطانيا للاعتراف به كخليفة للمسلمين (وفى قراءات أخرى إنشاء دولة عربية مستقلة في الشرق) وما أن قام بدوره في الاتفاق حتى خلف البريطانيون وعدهم بل ووعدوا اليهود (المنظمة الصهيونية تحديدا) بوطن في فلسطين التاريخية.
فضلا عن مزايا أخرى تمثلت في المزيد من التمكين للمرأة وخصوصا بعد انشغال الرجال في الحروب وحدوث فجوة كبيرة بين أعداد الجنسين في حقول العمل والإنتاج مما مهد الطريق لمنح المرأة حقوق التصويت وحق التحكم في الإنجاب من خلال تنظيم وسائل تحديد النسل أو منعه.
أقول رغم كل هذه المكاسب لكن الخسائر كانت أكثر بكثير لدرجة وضعت مصير جهود الحداثة كلها التي بذلت في القرون السابقة في مهب الرياح!
فمن ناحية عانت أوروبا في تلك المرحلة أكبر خسائر بشرية في تاريخها الحديث، فبحسب الموسوعة البريطانية فإن إجمالي الخسائر البشرية في أوروبا بين الحروب النابليونية (١٨٠٣) وحرب البلقان (١٩١٣) بلغ ٤.٥ مليون قتيل، بينما شهدت الفترة بين ١٩١٤ و١٩٤٥ سقوط ما بين ٢٥ و ٣٠ مليون تقريبا في أوروبا وحدها، فضلا عن ملايين أخرى من المشوهين والعجزة وهو ما كان بمثابة ضربة قوية للعنصر البشرى الأوروبي مما هدد كل ما تحقق من مكاسب صناعية وسياسية وكاد أن يطيح بأوروبا كلها!
ومن ناحية أخرى فالتطورات السياسية التحديثية في أوروبا كانت على المحك، فالحرب وظروفها الاقتصادية البائسة (الكساد الكبير مثلا) أثرت على خيارات الناخب الأوروبي فأنتجت هذه الظروف الهيسترية قيادات ديكتاتورية شمولية مثل ستالين وهتلر وموسيليني! كما أنها أنتجت نمط اقتصادي مغاير عن الرأسمالية التي عرفتها أوروبا خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ما بين انتشار الشيوعية فكرا وحكما في الشرق الأوروبي أو النمط المعروف ب"الميركانتى" القائم على تكديس الثروات بواسطة الدولة باعتبارها الوسيلة الوحيدة لحفظ الأمن القومي!
كذلك فقد تغيرت حدود أوروبا الوسطى والغربية كثيرا عن ذي قبل ومعها كان تحدى جديد لفكرة الهوية القومية الأوروبية سواء بمعناها القاري (على مستوى أوروبا ككل) أو بمعناها الوطني (على مستوى كل دولة أوروبية على حده) وهو خطر أخر هدد الحداثة الأوروبية لأنه كان يعنى المزيد من الصراعات التي يتم فيها التطهير على أساس العرق أو الهوية.
ورغم أن فترة ما بين الحربين (١٩١٩-١٩٣٨) شهدت بعض المحاولات لتنظيم العلاقات الدولية بين الدول وغير الدول بحثا عن الأمن والسلام واستقرار الحدود القومية ومن ثم انتظام التجارة الدولية، مثل إنشاء المجلس الدولي للمرأة (تأسس في الواقع عام ١٨٨٢ ولكن لم يتمكن من التنسيق الدولي سوى في عشرينيات القرن العشرين) أو عصبة الأمم (١٩٢٠-١٩٤٦) إلا أنها كانت محاولات محدودة التأثير بسبب ويلات فترة ما بين الحربين ولم تفلح في تحقيق الكثير من أهدافها!
***
ما بين ترنح الحداثة الأوروبية في تلك الفترة وصعود الفاشيات العسكرية في أوروبا والشرق الأسيوي، كانت الحضارة العربية والإسلامية مرتبكة وبشدة أمام موضوع الحداثة، فمن ناحية كانت معظم دول المنطقة العربية تحت السيطرة الأوروبية على اختلاف المسميات (احتلال، انتداب، اتفاق عسكري، سيادة مشتركة.. إلخ) وهو ما تسبب في ارتباك شديد في صفوف القوميين العرب تجاه قيم التحديث الصناعي والسياسي والاقتصادي، فبينما سعى القوميون إلى التحديث، لم يتقبلوا أدواته الأوروبية الاستعمارية ومن ثم كانوا يبحثون عن معانى أخرى لهذا التحديث وفى مقدمتها السعي إلى الاستقلال وإنشاء دولة عربية كبرى، كانت بعض التيارات الإسلامية تنظر إلى التحديث باعتباره شرا مطلقا جاء به المستعمر الصليبي لتفتيت الدول الإسلامية ومن ثم فقد سعوا للتخلص التام من أدواته وركز الخطاب الإسلامي في مرحلة العشرينيات والثلاثينيات (باستثناءات محدودة) على أن النهضة الإسلامية لن تكون إلا بالعودة إلى السيرة الأولى لدولة الرسول (صلى الله عليه وسلم) والخلفاء الراشدين ليدخلوا في مهمة مستحيلة للسير عكس اتجاه التاريخ متجاهلين كل التطورات الثقافية والاجتماعية والسياسية على مدار ١٣ قرنا!
كيف تمكن الغرب من الخروج من مأزق الحداثة هذا واستعادة النهضة الأوربية (الغربية)؟ وماهي مكونات وسمات هذه العودة؟ هذا ما أحاول قراءته في المقالات القادمة.