«أنا مستعد للمشاركة ومستعد للتعاون». قالها على عبدالله صالح عند توقيع المبادرة الخليجية فى الرياض الأسبوع الماضى. وقد نجح فى لىِّ عنق المبادرة للتطابق مع تفسيره لها مدعوما من الإدارة الأمريكية وحكام السعودية والخليج.
أفرغ المبادرة من أى محتوى يسهم فى انتقال فعلى للسلطة أو إرهاص بمسيرة بناء نظام سياسى جديد. مهما يكن، هذه الكلمات التى رافقت التوقيع ليست كلمات حاكم يغادر السلطة.
بالفعل، أعلن الرئيس اليمنى تنازله عن صلاحياته لنائبه وبقى رئيسا للبلاد خلال تسعين يوما تجرى خلالها انتخابات رئاسية فى ٢١ فبراير ٢٠١٢. وهنا أول مآخذ على المبادرة الخليجية. فعلى عكس ما قد يتبادر إلى الذهن، فإن تقريب مهلة الانتخابات الرئاسية، فى ظل دستور رئاسى مفصّل على قدّ الدكتاتور، واستمراره وطاقمه فى التحكم بمفاصل السلطة السياسية والامنية والعسكرية، لا يبشر بانتخابات رئاسية حرة ولا بافتتاحها تغييرا سياسيا فعليا. إن لم ينجح مقربون من «الرئيس المتنازل»، والمعروف عزمه على ترشيح ابنه أحمد ــ المعدّ أصلا لخلافته، فإن منطق الانتقال كفيل بمنح الرئيس المنتخب الصلاحيات التنفيذية والتشريعية الاستثنائية للتى كانت لصالح على حساب السلطة التشريعية الصادرة عن الإرادة الشعبية.
بقى رئيسا للبلاد ينوى ممارسة صلاحياته. أعلن أنه مغادر إلى الولايات المتحدة لاستكمال علاجه فإذا به قابع فى صنعاء يمارس صلاحيات رئاسية. فبعد أسبوع من «تنازله لنائبه» أصدر عفوا عمن سمَّاهم «مرتكبى حماقات» خلال الأحداث الأخيرة. وفى اليوم نفسه، واصل نشاطه بأن تابع مع وزير الداخلية سير عمليات حفظ الأمن فى البلاد.
فوق هذا، والأهم منه، حصل الرئيس «المتنازل عن صلاحياته لنائبه» سلفا على الحصانة له ولاسرته وأطقم نظامه. بعبارة أخرى، أعفى دكتاتور من المساءلة والمحاسبة والعقاب على جرائم ارتكبها وأسرته والمتعاونون معه طيلة ٣٣ سنة قبل أن يتنازل فعليا عن الحكم. والأمم المتحدة رعت تلك الفضيحة الخارقة لشرعيتها واكتفى مجلس الامن التابع لها بالدعوة ــ الدعوة! ــ إلى معاقبة الذين قاموا بأعمال عنف منذ كانون الثانى الماضى، دون ذكر للرئيس وطاقمه الحاكم من بينهم. وقد تشمل الدعوة العسكر الموالين للمعارضة قدر ما تشمل المسئولين فى السلطة والجيش وأجهزة الأمن التابعة للنظام. على افتراض أن أيا من هذا سوف يطبّق!
ثم إن مندوب الأمم المتحدة باق للإشراف على استكمال تنفيذ المبادرة من حيث توحيد القوات المسلحة وتنظيم الحوار الوطنى. والسؤال: كيف يمكن تحييد القوات المسلحة عن التدخل فى المرحلة الانتقالية وتوحيدها بما يؤمّن سلمية الانتقال، فيما يسيطر الرئيس «المتنازل» على القسم الأكبر من القوات المسلحة بما فيها الحرس الجمهورى والقوات الخاصة التى يقودها ابنه وخليفته والمخابرات الموضوعة بإمرة ابن أخيه فضلا عن الطيران والبحرية. وأحمد هذا مرشح لأن يكون وزير الدفاع فى الحكومة المقبلة.
***
بتوقيعها على المبادرة الخليجية، اكدّت احزاب المعارضة المنضوية فى «اللقاء المشترك» أن جلّ ما يهمها من عشرة اشهر من الحركات الجماهيرية غير المسبوقة ومن القمع والتضحيات هو تقاسم السلطة من موقع الشريك الأدنى مع النظام. من أجله تخلّت عن الحيوى والجوهرى من أهداف وشعارات وقيم الثورة اليمنية. فغلّبت تقاسم الوزارة مع حزب النظام، والمساهمة فى إنقاذ النظام ولو باستبعاد بعض رموزه. فكم هو لافت أن تحاكم مصر وتونس وليبيا حكامها.
وتعفى يمن المبادرة الخليجية الحاكم من المحاسبة. وكم هو مدعاة استهجان ان تنجح الثورات فى البلدان الثلاثة فى استصدار حلّ أحزاب الأنظمة ومنع أعضائها من الترشح للانتخابات، فيما يقضى «الحل» الأمريكى الخليجى فى اليمن بمشاركة «المؤتمر الشعبى» فى السلطة بل وتقاسمها مع المعارضة ومنحه كل الحظوظ والفرص ليبقى الحزب الأقوى والأوسع نفوذا. ومن جهة ثانية، وافقت المعارضة على استبعاد بؤرتين من بؤر الاحتجاج فى غرب البلاد وجنوبها. فقد وقّـع محمد سالم باسندوه على المبادرة الخليجية بصفته رئيسا لمجلس وطنى انتقالى غادره نصف أعضائه. وارتضت المعارضة الرسمية استبعاد الحركة الحوثية عن المشاركة فى التسوية إرضاء للسلطة فى صنعاء وللعربية السعودية وأنظمة الخليج. بهذا دقت الإسفين بين القوى المتضررة من الحكم الفردى وشجّعت، من حيث أرادت أو لم ترد، العناصر المتطرفة فى كلتا البؤرتين. ردت الحركة الحوثية على الاستبعاد بالتوتير الأمنى من خلال اشتباك مسلح مع مجموعات وهابية ناشطة فى محافظة صعدة. ويساعد استبعاد ممثلى المحافظات الجنوبية، ورفض أحزاب اللقاء المشترك التقدّم بمشاريع حلول فعلية للمسألة الجنوبية، على تغليب التيارات المتطرفة فى الحراك الجنوبى وخصوصا دعاة الانفصال بينهم. وهذا فى وقت كانت الثورة قد نجحت فى تكتيل كل القوى المتضررة من النظام الدكتاتورى، من حضرموت إلى صعدة فالحديدة، ومن عدن إلى تعز فصنعاء، فى إرادة واحدة للتغيير السياسى مقدمة لحل سائر مشكلات البلد الجهوية والاقتصادية والاجتماعية.
أما الأفدح فهو الشرخ الذى أحدثته أحزاب المعارضة الرسمية بينها وبين القوى الشبابية فى ساحات التغيير. هؤلاء الذين لولا تضحياتهم وصمودهم وابتكارهم الوسائل الخلاقة للرد على حيل النظام وأدوات قمعه، لما نزلت احزاب المعارضة الرسمية إلى ساحات النضال، ولا منحت نفسها أو منحتها الأطراف الخارجية، حق التفاوض والمشاركة فى الحل أصلا. وقد عبّر باسندوه نفسه بصراحة مدهشة عن ذلك التخلى والشرخ الذى أحدثه إذ اعترف للشباب «بأن شيئا لم يتحقق من الذى ينشدونه ولا مما تنشده أحزاب اللقاء المشترك». ما يعنى أن اللقاء المشترك خضع للإرادة الخارجية ليس إلا. والأفدح أنه مضى قائلا فى جدلية غرائبية «ولكن تحقق شىء من ذلك والتغيير الجزئى سيقود حتما إلى تغيير شامل وكامل فى المستقبل».
***
فلا عجب أن يعلن الشباب أنهم غير معنيين بمبادرة خليجية رفضوها منذ البداية وان يعاندوا منح الحاكم الحصانة عن جرائمه وأن يحرقوا صور الملك السعودى عبدالله بن عبدالعزيز فى الشوارع والساحات وأن تستمر التظاهرات والإضرابات والاعتصامات فى العديد من المدن فى طول البلاد وعرضها. والأهم فى هذا الصدد القرار ــ المتأخر ــ الذى اتخذته القوى الثورية بتشكيل «لجنة للتواصل والتنسيق» تضم جميع اللجان الفاعلة فى أنحاء اليمن الأربعة وقد اختيرت مدينة تعزّ فى وسط البلاد مركزا لها وهى التى تكبدت فى الآونة الأخيرة الوزر الأكبر من قمع النظام وجرائمه.
الثورة مستمرة فى اليمن وهى تدخل مرحلة جديدة تصطدم فيها الآن بنموذج عن تسوية أمريكية ــ سعودية محورها استبعاد الجماهير والسعى لإخراجها من الشوارع والساحات والتفرّغ من ثم لإنقاذ النظام القائم، عن طريق نقل الصلاحيات من الرئيس لنائبه ــ وهو ما افشلته قوى الثورة فى مصر وتونس ــ فيبقى النظام السياسى قائما على الصلاحيات الواسعة للرئيس ركيزته الجيش ومصدر قوته انفراده بالسلطة التنفيذية، بل يبقى الحزب الحاكم مشاركا فى الحصة الأكبر من السلطة مدعوما بأجهزة السيطرة والتحكم والقمع ومعززا بالدعم الخارجى والتواطؤ الدولى.