فى اليوم الذى يجرى فيه تشييع رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر إلى مثواها الأخير فى جنازة رسمية، لا تزال بريطانا منقسمة حول هذه المرأة وسياسياتها والآثار العميقة التى تركتها فى المجتمع البريطانى. وليس الانقسامات بأقل اثرًا على سائر العالم لأن تاتشر شكلت الثنائى المعروف مع الرئيس الامريكى رونالد ريجان الذى نظم الارتداد على سياسات «دولة الرعاية» وما اتبعها من سياسات فى سائر انحاء العالم خلال عقود التحرر من الاستعمار والتنمية المسيّرة بالدولة والقطاع العام وفق مبادئ العدالة الاجتماعية.
المرأة التى ودعها أمس قسم من البريطانيين، ومعهم الفا مدعو رسمى يبرز بينهم كبار أغنياء العالم وحكام النفط والغاز العرب، بدأت حياتها السياسية بما هى وزيرة تعليم بإلغاء ليتر الحليب اليومى الذى كانت الحكومات البريطانية توزعه مجانًا على تلامذة بريطانيا. فعرفت بـ«سارقة حليب الاطفال».
●●●
قادت حزب المحافظين من عام ١٩٧٥ إلى عام ١٩٩٠. وتولت رئاسة الوزراء بين ١٩٧٩ و١٩٩٠. شهد عهدها احداثًا سياسية حاسمة شملت الحرب التى شنّتها على الأرجنتين حول جزر فولكلاند، وقسوة القمع فى إيرلندا الشمالية، وصولًا إلى شراكتها مع الرئيسين الأمريكيين رونالد ريغان ثم جورج بوش الأب فى هندسة العوامل الخارجية التى أدت إلى انهيار الكتلة السوفييتية. ومما يذكر عنها حفلة شاى مع ديكتاتور تشيلى السابق اوغوستو بينوشيه، عندما كان لاجئًا فى لندن، واتهامها المناضل الجنوب افريقى نلسون مانديلا بانه «مجرم».
اختتم عهدها مع اعلان «توافق واشنطن» الذى كرّس ما سمّى حينها بـ«الاصولية الليبرالية» ونسميه الآن «النيوليرالية». وقد دشنته تاتشر هى والرئيس ريغان الاميركى تحت شعار الدولة هى العدو لأنها تتدخل فى الاقتصاد. اللهم إلا إذا كان تدخلها فى خدمة الاثرياء.
فى عهدها كان الارتداد على توصيات جون ماينارد كينز، داعية تدخل الدولة فى الاقتصاد الرأسمالى لقطع دابر الازمات الدورية، والانحياز الى طروحات خصمه عالم الاقتصاد الليبرالى المتطرف فريدريش فون هايك (١٨٩٩ــ١٩٩٢). طرح فون هايك فكرته ببساطة: ان الرأسمالية وتدخل الدولة فى الاقتصاد خطان لا يلتقان. هاجم العدالة الاجتماعية بما هى «وهم». واعلن عداءه لمبدأ المساواة باسم مبدأ الحرية. ووضع الثانى فى مواجهة الأول. ودعا إلى اطلاق آليات السوق على رُسُلِها وآمن باقتصاد عالمى على شاكلة «كازينو دولى» يوزع الأرباح بواسطة «اليد الخفية» اياها التى تحدث عنها آدم سميث.
ومفهوم ان رفض اى دور للدولة فى الاقتصاد هو الوجه الآخر لدورها فى دعم مصالح الرأسمالية والقلة الثرية. يرمز إلى ذلك صورة شهيرة لمارغريت تاتشر وهى ترفع شعارا يقول «دعوا الاثرياء يزدادون ثراء». تنفيذًا لهذا المبدأ، اقدمت على أوسع عملية خصخصة قامت بها دولة اوروبية إلى الآن. أعادت إلى القطاع الخاص صناعات الصلب والسيارات والطائرات والنفط والغاز والاتصالات والمواصلات (سكك الحديد) التى أممتها الحكومات العمالية بعيد الحرب العالمية الثانية. وخفضت حكومات تاتشر الإنفاق الحكومى على الخدمات الاجتماعية، وقلّصت تقديمات الضمانات الاجتماعية والصحية، وشجعت على خصخصة الصحة. ورفعت الضرائب على ذوى الدخل المحدود وخفضتها على ذوى المداخيل المرتفعة. وفى العام ١٩٨٤، تصدّت لأكبر وأطول، وربما آخر، إضراب عمالى واسع النطاق فى اوروبا كلها، عندما كسرت إضراب عمال المناجم بقسوة شديدة. وفى عهدها اقفلت مصانع كثيرة وارتفعت نسبة البطالة ومعها قياس التفاوت الاجتماعى والفوارق الطبقية. وعرفت تاتشر أيضا بحربها الشرسة ضد النقابات العمالية، إذ عملت على إضعاف «مجلس النقابات» الاتحاد النقابى القوى الذى يمثل اكثرية عمال بريطانيا. وإستصدرت قوانين تسمح للعمال بعدم الانضمام للنقابات.
●●●
وفوق ذلك كله، فالمرأة التى سميت «المرأة الحديدية» ــ ونسبوا الى حديديتها تجديد قوة بريطانيا وموقعها فى العالم ــ لم يعرف عنها انها كانت نصيرة حقوق المرأة او من دعاة تحررها!
انقسم البريطانيون ازاء موتها مثلما انقسموا خلال حياتها. بل اكثر. فلم يوافق أكثر من ربعهم على تمويل جنازتها على حساب دافعى الضرائب. وقد قدرت كلفتها على الخزينة البريطانية بما يزيد على ١٠ ملايين جنيه. حتى ان الصحافة الساخرة اشاعت ان دولة قطر عرضت تمويل الجنازة شرط نقلها الى الدوحة!
دعا اشهر سينمائيى بريطانيا، المخرج اليسارى كن لوتش، إلى خصخصة الجنازة، على اعتبار انها اكثر انسجامًا مع افكار المرأة وممارساتها. وايده كثيرون. أضاف لوتش تحذيره من الارث الذى تركته المرأة: ترويج بل تقديس قيم الانانية والجشع.
كأن لوتش يذكّرنا جميعا بأن هذا الارث مستمر، رغم سجلات الفشل الذريع، فى النيولبرالية التى لا تزال المؤسسات الدولية تحاول فرضها على العالم بعناد مدهش.
للذين لا يصدقون: انتظروا نتائج مفاوضات حكومات «الرأسمالية المؤمنة» فى مصر وتونس حول قروض صندوق النقد. وأحكموا بأنفسكم.
سياسى وكاتب وأستاذ جامعى لبنانى
ينشر بالاتفاق مع جريدة السفير اللبنانية