لا تنمية شاملة بدون ثورة صناعية، ولا ثورة صناعية دون توافر مقومات هذه الثورة؛ هذا هو ملخص التجارب التنموية القديمة والحديثة. فلقد أثبتت هذه التجارب، وبما لا يترك مكانا للخلاف، أن ابتغاء التنمية بغير طريق التصنيع هو إهدار للوقت وللإمكانيات، وأن تثوير الصناعة بمعزل عن شروطها ومقوماتها الموضوعية هو تبديد وبعثرة لجهود التصنيع والتنمية.
***
كان منظرو التنمية الاقتصادية على حق عندما أطلقوا على الدول المتقدمة اسم الدول الصناعية؛ وكانت الدول المتقدمة على حق عندما اتخذت طريق التصنيع طريقها. فلو بحثت فى أسباب التقدم الاقتصادى المستدام، ستجد الصناعة ماثلة أمامك؛ وإذا فاضلت بين الطرق الموصلة لهذا التقدم، لن تجد غير طريق التصنيع موصلا. ولا غرابة فى ذلك طالما أن الصناعة وحدها هى التى تغلبت على عقبات الجغرافيا، بإنتاجها وتطويرها لمكونات منظومة النقل الحديث ولمنظومتى الإسكان والصحة؛ وهى التى تغلبت على مشكلات النمو السكانى، فزادت من القدرات الإنتاجية للاقتصاد وخلقت من الوظائف ما يواجه المعدلات المرتفعة من نمو السكان؛ وهى التى خلقت مصادر جديدة ومتجددة للطاقة والتشغيل؛ وهى التى حدّت من هدر الموارد الطبيعية، وأتاحت للدول التى لا تمتلك هذه الموارد إمكانية الاستفادة منها؛ وهى التى مكنت مواطنى الدول المتقدمة من الوصول لمرحلة الاستهلاك الوفير من السلع والخدمات؛ وغير ذلك مما لا يتسع له المقام.
وبالنظر فى الفضائل والمزايا السابقة للتصنيع، يمكن أن نرى دولا صناعية ترفل فى نعيم هذه المزايا، ونرى دولا أخرى ما برحت تجاهد للولوج فى عصر الصناعة. بيد أنه من المعلوم أن الدول الصناعية الحالية لم تدخل هذا العصر مرة واحدة؛ بل مرت بمراحل تدريجية متعددة، وتتابعت عليها ثورات (أو سمها طفرات) فى إحلال الماكينات محل الإنسان فى الأنشطة الإنتاجية؛ ثم ركزت جهودها فى تصنيع وتطوير هذه الماكينات، حتى وصلت لعصر الإحلال الكامل للآلة محل الإنسان، أو ما يعرف بعصر «الروبوت». ووفق هذا التدرج التصنيعى، لن يكون الجهد التصنيعى للدول غير الصناعية (ومن بينها مصر) سليما إلا باقتفاء الخطوات التى قطعتها الدول الصناعية، والتوسل بأساليب المحاكاة الصناعية كلما كان ذلك ممكنا.
ولئن كان الاقتصاد المصرى يجاهد منذ عقود طويلة فى طريق التصنيع، وتجده يسير قدما فى هذا الطريق لبعض الوقت، ثم ينكص على عقبيه أوقاتا أخرى؛ فيعنى ذلك وجود عقبات رابضة فى هذا الطريق حالت دون تحقيق أهدافه التصنيعية. فما هى أهم هذه العقبات؟ وكيف يمكن التغلب عليها كى يمكن تثوير الصناعة فى مصر؟
لقد قلت حالا إن عماد الصناعة هو الآلة، وأن الدول الصناعية هى تلك الدول التى باتت قادرة على تصنيع الآلات والمعدات، وليس مجرد توظيفها فى المصانع. وبما أن الاقتصاد المصرى بوضعه الراهن غير قادر على صناعة الآلات الحديثة، تصبح أولى العقبات الرابضة فى طريقه للتصنيع هى قدرته على إنتاج وتطوير التكنولوجيا المصرية. وتقودنا هذه النتيجة مباشرة للتفكر فى الكيفية التى دخلت بها بعض الدول لعصر الصناعة مؤخرا، لتهتدى بها التجربة المصرية. فلقد استقر مبكرا فى وجدان صانع السياسة الاقتصادية فى تلك الدول الأهمية البالغة لبناء قاعدة تكنولوجية وطنية، ولم تجد السياسات الاقتصادية غير «الهندسة العكسية» وسيلة لبناء هذه القاعدة ثلاثية الأضلاع. ولما كان الضلع الأول فى هذه القاعدة هو الحديد والمعادن، وكان الضلع الثانى هو تكنولوجيا «الهيدروليك»، وكان الضلع الثالث هو أنظمة وبرمجيات التشغيل والحوسبة؛ فلقد عكفت هذه الدول على تطوير قدراتها العلمية والفنية فى هذه المجالات الثلاثة، كنقطة ارتكاز أساسية فى تثوير صناعتها الوطنية، وكخطوة ضرورية لاقتناء تكنولوجيا وطنية.
وكما نعلم، فإن للتقنيين (المهندسون والفنيون) دورا حاسما فى التصنيع الوطنى؛ إما لدورهم فى تصنيع الآلات، أو لمسئولياتهم عن تشغيلها. وكلما تقدمت التكنولوجيا، كلما احتاجت صناعة الآلات لتقنيين مهرة؛ وكلما تطورت خطوط الإنتاج، كلما زاد الاحتياج لهؤلاء التقنيين فى تشغيل ما تتضمنه هذه الخطوط من آلات. وهنا يمكن القول إن علاقة التقنيين بالآلات الحديثة ليست فى أحسن أحوالها فى الاقتصاد المصرى. فإذا كانوا قادرين على تشغيل هذه الآلات، فإن صيانتها عصية عليهم، وتصنيعها أشد عصيانا. ومن ثم، فإن العقبة الثانية الرابضة فى طريق التصنيع فى مصر هى توافر فئة التقنيين التى يمكنها أن تنهض بالتصنيع المصرى.
وثالث العقبات الرابضة فى طريق التصنيع المصرى هى عقبة التمويل. ذلك أن بناء قاعدة صناعية متطورة، وتملك تكنولوجيا مصرية حديثة، يحتاج لتمويل تنوء بحمله مصادر التمويل الحالية. فلا الموازنة العامة المصرية تملك التمويل الكافى، ولا موازنات المصانع القائمة قادرة على تحمل هذا العبء منفردة. كما أن الخبرات المحلية والدولية تثبت أنه لا يمكن التعويل على مصادر التمويل الخارجى (الاقتراض والمنح ورءوس الأموال الأجنبية) لبناء هذه القاعدة الوطنية. فالتمويل الأجنبى يبحث ــ أولا وأخيرا ــ عن زيادة العوائد المالية على تدفقاته.
أما رابع العقبات الرابضة فى طريق التصنيع المصرى، فتتمثل فى غياب الاستقرار عن السياسات الصناعية وتردى أدوات الرقابة على الأنشطة الصناعية وعلى جودة التصنيع، بالإضافة إلى تراجع ملف الصناعة عن موقع الصدارة فى السياسات الاقتصادية لصالح ملفات أخرى. ولا أحتاج هنا لمزيد من التوضيح ليعلم القارئ أن رسوخ السياسات الصناعية يعنى أنها لا يجوز أن تتأثر أو تتغير بتغير شخص الوزير المسئول عنها، أو تتقلب بالتقلب فى مكانة الوزارة الراسمة لها. كما يعلم القارئ أن المحاولات الحكومية الحثيثة لمعالجة الأزمات التى ألمت بالاقتصاد المصرى فى العقود الخمسة الماضية، قد أتت على حساب مكانة ملف التصنيع فيه.
***
لا يصح عقلا القول بأن الاقتصاد المصرى يمكنه التغلب على العقبات الأربع السابقة دفعة واحدة؛ فهى عقبات نشأت وتضخمت عبر فترات زمنية ممتدة، وتحتاج أيضا لوقت كافٍ للتغلب عليها وتجاوزها. لكن المشكلة الأساسية هنا ليست فى المدة التى يحتاجها الاقتصاد المصرى ليتجاوز هذه العقبات، بل فى الأعباء المترتبة على التقاعس عن البدء الجدى والفورى فى رسم الخطط والسياسات والبرامج الضرورية لتجاوزها.
والحق، فإن من دواعى التفاؤل بالنسبة لى أن أجد الروح بدأت تسرى فى السياسات الاقتصادية الحالية لمساندة الصناعة؛ فأجد البنك المركزى يقر سياسات لدعم الائتمان الممنوح لقطاع الصناعة، ولتقديم تسهيلات وإعفاءات لمديونيات هذا القطاع؛ وأرى وزارة التعليم تحاول تطوير منظومة التعليم الفنى، وأسمع أن وزارة الصناعة لديها نوايا طيبة لترسيخ سياسة صناعية مستقرة. لكنى، مع كل ذلك، أؤمن بأن هذه الخطوات مجرد سياسات مساندة للصناعة، وليست سياسات صناعية بالمعنى الثورى لهذا المصطلح. فالسياسات الصناعية التى يحتاجها الاقتصاد المصرى، والتى يمكن التعويل عليها فى تجاوز عقبات التصنيع آنفة الذكر، هى التى تستهدف إنتاج وتطوير تكنولوجيا وطنية خالصة، وهى التى ترتقى فيها مهارات التقنيين المصريين لتصل للمستوى التنموى، وهى التى يتاح فيها التمويل الكافى لإنتاج وتوطين التكنولوجيا المصرية عبر التكامل والمشاركة بين الموازنة العامة وموازنات القطاع الخاص، وهى التى يعلن فيها بوضوح عن التوافق والالتزام بين التقنيين والصناع من جهة وبين راسمى هذه السياسة من جهة أخرى.
على أن نجاح السياسة الصناعية المصرية فى تثوير الصناعة فى مصر، يعنى بالنسبة للمهمومين بشئون التصنيع أن تتحرك جهود التصنيع المصرية فى خمسة خطوط متوازية، وهى:
• أن تسخر جميع الإمكانات البشرية والتقنية والمالية للحكومة ولكليات الهندسة ومراكز البحوث التقنية وتتضافر تحت مظلة «برنامج المحرك المصرى»، كى يتحقق الحلم المصرى فى إنتاج محرك وقود وموتور كهربائى وطنيين، عبر تطوير صناعة الهيدروليك وصناعات السبائك والحوسبة التشغيلية، والتى بدونها لن تقوم للصناعة المصرية قائمة.
• وعلى التوازى من «برنامج المحرك المصرى»، يكون إنتاج سيارة مصرية خالصة هو الخط الثانى لتحرك جهود التصنيع. وفى ذلك، أكرر القول بأنه يجب إعادة النظر فى الحوافز السخية التى مُنحت ــ ومازالت تمنح ــ لمصانع تجميع السيارات العامة والخاصة، والتى لم يكن لها أى دور يذكر فى التعميق الحقيقى لهذه الصناعة فى مصر؛ بل يمكن أن توجه لها أصابع الاتهام فى وأد محاولات تصنيع سيارة مصرية. وبإعادة النظر فى هذه الحوافز، يمكن توجيه حصيلتها بالكامل لتمويل مشروع السيارة المصرية.
• أن تقتنص السياسة الصناعية المزايا المتنوعة فى الاقتصاد المصرى فى قطاع الطاقة المتجددة، وأن تأخذ على عاتقها تطوير صناعة وطنية للخلايا الشمسية ولطواحين الهواء؛ بأن تتحول الخطط والسياسات المرسومة لتطوير قطاع الطاقة المتجددة من مجرد تمويل واردات هذه التكنولوجيا، إلى توجيه جزء متزايد من هذا التمويل للإنفاق على توطين إنتاج هذه التكنولوجيا محليا، إما عبر قناة الهندسة العكسية، أو عبر الدخول فى مفاوضات مباشرة مع الشركات الدولية الرائدة فى هذا المجال.
• أن يدشن «البرنامج الوطنى لقطع الغيار»، ليكون هدفه الأساسى توطين صناعة قطع الغيار التى يئن ميزان المدفوعات من استيرادها، وتئن موازنات المصانع من أعبائها الدولارية. وستتمثل الملامح الأساسية لهذا البرنامج الوطنى فى حصر جميع قطع الغيار المستوردة، وترتيبها تنازليا وفق إمكانات التصنيع المحلى لها، مع وضع إطار زمنى لتعزيز القدرات التصنيعية المصرية فى الإنتاج المحلى لجميع قطع الغيار المستوردة، كخطوة أساسية فى بناء القاعدة التكنولوجية الوطنية.
• وبالتوازى مع الخطوات السابقة، يجب أن تستهدف السياسة الصناعية فى مصر زيادة القيمة المضافة المولدة فى قطاع الوقود الأحفورى (النفط والغاز)، وأن تزيد الروابط والتشابكات الصناعية بين الصناعة التحويلية وبين عمليات استخراج وتكرير وإسالة النفط والغاز. فالهدر الذى يحدث بسبب المستوى التصنيعى المتواضع فى هذا القطاع، لن يوقفه غير بناء تكنولوجيا وطنية تخلق هذه الروابط والتشابكات الصناعية، وتعيد استخدام هذا المورد الناضب بطريقة تنموية.
***
إننى أرى الفرصة سانحة الآن لتحقيق ثورة فى قطاع الصناعة تجعله ينتقل لمقعد القيادة فى الاقتصاد المصرى. وعندما تهب على قطاع الصناعة رياح الثورة، ستنعكس آثارها مباشرة على مؤشرات التصنيع الرئيسية؛ بزيادة مساهمة قطاع الصناعة فى توليد الناتج، وتزايد الوظائف الصناعية المنتجة، وستقل أعباء النقد الأجنبى الملقاة على كاهل ميزان المدفوعات؛ وقبل كل ذلك، ستتحسن مؤشرات الاستقلال الاقتصادى المصرى تدريجيا. فالصناعة، ولا شىء غيرها، هى التى ستعيد لمصر مكانتها بين الأمم!