لعلها من المرات النادرة فى تاريخ التعليم المصرى الحديث التى يتظاهر فيها الطلاب اعتراضا على قرارات تعليمية وعلى مقررات دراسية ومناهج تعليمية. فقد عرف التاريخ ولا يزال حتى هذه اللحظة المظاهرات السياسية تأييدا أو رفضا لسياسة ما.
ولكن الجديد أنه على مدار الأسابيع الماضية تظاهر طلاب الثانوية العامة ضد وزارة التعليم اعتراضا على النظام الجديد للثانوية العامة الذى سيطبق عليهم اعتبارا من سبتمبر القادم. فما كان من وزارة التعليم إلا أن رضخت فورا لمطالب الطلاب، بل وأصدرت قرارا وزاريا ينص على تقليص عدد مواد شهادة الثانوية إلى 6 مواد فقط بدلا من 8 مواد دراسية كانت الوزارة قد اقترحتها سابقا. ويبدو أنه لو كان الضغط الطلابى قد استمر مدة أطول لكانت الوزارة قد ألغت امتحان الثانوية نفسه، وقامت بتوصيل الشهادة إلى منازل الطلاب بنفسها على «طريقة التوصيل للمنازل» ويا دار ما دخلك شر.
●●●
والقضية ليست فى تظاهر الطلاب أو اعتراضهم، ففى اسباب الغضب الطلابى بعض المنطق الجدير بالإنصات إليه، خاصة طلبهم بعدم تناسب عدد المواد المقررة مع زمن الدراسة «ثمانى مواد فى تسعة اشهر فقط». ولكن الغريب كان موقف الوزارة المسئولة والتخفيض الفورى لعدد المواد الدراسية بدون أى رؤية أو فلسفة تبرر هذا الإجراء. فمثلا لماذا قررت الوزارة اختيار مواد بعينها لتدريسها دون الأخرى؟ أو زيادة الوزن النسبى والدرجات لمواد دون الأخرى؟ ولماذا تم إلغاء تدريس بعض المواد تماما؟
فعلى سبيل المثال قررت الوزارة أن تصبح اللغة العربية مادة البريمو أو الجوكر الرئيسى فى مجموع الطلاب، فقررت رفع درجاتها لتصبح 100 درجة بدلا من 60 درجة، متصورة أنها بهذا الاجراء سوف ترفع حب الغة العربية إلى درجة العشق. وأخشى أن أقول إن العكس هو ما سيحدث، لأن عدم حب الطلاب للغة العربية وإتقانها لن يتحسن بزيادة مجموع الدرجات وإنما بتطوير مناهج اللغة العربية نفسها وجعلها محببة من قبل الطلاب، خاصة أن المناهج الحالية عقيمة وقديمة ولا تمت لواقع الحياة المعاصرة بصلة. وهو ما ينفر الطلاب من حب المادة ودراستها بل إن الكثيرين هربوا إلى مدراس اللغات بسبب مناهج اللغة العربية وليس بسبب تدنى درجاتها، وبالتالى فهذا قرار شكلى وأخشى أن أقول أن وراءه أسباب اخرى غير التعليم، ومنها مثلا رفع أسعار الدروس الخصوصية لمدرسى هذه المادة تحديدا لأنها أصبحت كما ذكرت تحصد 25% من الدرجات. بل إن بعض الخبثاء فسروا الأمر لصالح تيار سياسى محدد لزيادة أعداد المقبولين منهم بالجامعات أو لزيادة أرباح بعضهم من الدروس الخصوصية خاصة ونحن مقبلون على موسم انتخابات.
وأيا كان الأمر أو الأسباب وراءه يظل هذا القرار مثيرا للعديد من علامات الاستفهام لاسيما وأن أغلب دول العالم لا تعطى هذه الميزة للغة الوطنية عند حساب الدرجات وهو ما نجده فى كل الشهادات الأجنبية مثل الفرنسية والإنجليزية وغيرهم وكلها يتم تدريسها فى مصر فهل نحن غيورون على لغتنا أكثر من غيرة الفرنسيين على لغتهم!
لم يقتصر القرار الوزارى على هذا التعديل للشكل دون المضمون على اللغة العربية فقط، وإنما امتد الأوكازيون والعبث التعليمى إلى إلغاء تدريس مواد بعينها أو إضافتها للمجموع. وبالمصادفة كانت أغلب المواد التى تم إلغاؤها هى الفلسفة والمنطق وعلم الاجتماع وعلم النفس، بينما أبقت الوزارة على الاقتصاد والإحصاء والجيولوجيا خارج المجموع لمجرد حب استطلاع الطلبة هذا إن وجدوا أصلا وقتا لفتح الكتاب الدراسى المقرر!
وهنا يتبادر للذهن سؤال هام، لماذا ألغيت هذه المواد وهى المعروف عنها أنها مواد ومناهج تبعث على التفكير والمعرفة وفهم الظواهر الاجتماعية والثقافية ولا تدعو إلى السمع والطاعة!
●●●
وكالعادة سوف تبرر الوزارة قرارها بأن الكتب موجودة وعلى من يريد المعرفة قراءة الكتب، وأن العلم فى الرأس وليس فى الكراس كما يقول المثل الشعبى!
وتناست الوزارة أن الثانوية العامة ليست سنة نقل عادية وإنما هى شهادة هامة فى حياة الطالب وأنها مسابقة وصراع على النصف درجة للفوز بمكان تحت الشمس (أقصد داخل مكتب التنسيق) والبقاء فيه للأصلح درجات ومجموعا. ومن هنا ارتفع الطلب على الدروس الخصوصية للفوز فى هذا السباق، والمحصلة وفق هذا القرار الوزارى أن الطلاب لن يقتربوا من هذه المواد الدراسية الهامة.
ولن نسأل بالتأكيد عن وجود أى دراسات علمية أو تربوية وراء هذا القرار، فهذا ترف ولجاجة من السائل. ولكن نسأل من الذى أجزم بفرمان وزارى أن كل الطلاب المصريين نابغة وسوف يلتحقون بالطب والهندسة فقط فيتم تدريس المواد الدراسية لهذه التخصصات فقط بصفة إجبارية، مع أن لغة الأرقام توضح أن أكثر من 85% من الناجحين فى الثانوية العامة لا يلتحقون بالكليات العملية التى درسوا تخصصاتها، وهذا يعنى أن هذه الأغلبية العظمى من الطلاب سوف تذهب إلى كليات وأقسام لم تسمع ولم تعرف عنها شيئا ولا حتى مجرد الاسم!
مثل علم النفس وعلم الاجتماع بل والفلسفة. وهذه كانت المفاجأة الكبرى فى القرار الوزارى، فقد كان الكثيرون يظنون (وإن بعض الظن إثم كما نعرف) أن الوزارة قد تعلمت مما حدث عام 1960 حينما أصدر وزير التعليم فى ذلك الوقت وهو كمال الدين حسين (ذو النزعة الإخوانية) قرارا بإلغاء تدريس الفلسفة فى الثانوية العامة أيضا، ولكن هذا القرار لم يطبق لأن عبدالناصر قد ألغى القرار فى الستينيات وما أدراك ما الستينيات!
ولن نتحدث هنا عن أهمية الفلسفة ودراستها فتلك أصبحت من الثوابت عالميا وأغلب النظم التعليمية فى العالم تدرسها إجباريا الآن، ولكن يبدو أن النظام الحالى يكره أى مواد تساعد على التفكير أو الحوار أو الجدل باعتبارها لجاجة غير مقبولة فى الوقت الحالى كما صرح لى أحد المسئولين الكبار فى الوزارة الآن!
يضاف إلى عجائب الأوكازيون التعليمى أن الفرمان الوزارى قصر دراسة المادة الاختيارية الوحيدة على الجيولوجيا للعلمى، مع أنها كانت متاحة لطلاب الأدبى أيضا سابقا وذلك لفتح منافذ لهم عند الالتحاق بالكليات. ونفس الأمر ينطبق على مادتى الإحصاء والاقتصاد حيث حظر القرار على طلاب العلمى اختيارها وقصر دراستها على طلاب الأدبى! وامتد الأوكازيون لإلغاء مادة المستوى الرفيع مع أنها كان يمكن لها أن تحل أزمة هذا الفرمان الوزارى العجيب الذى ليس له مثيل فى أى نظام تعليمى أو تربوى.
●●●
وفى محاولة لفهم وتفسير وفك طلاسم هذا الفرمان، صرح لى مسئول تربوى بالوزارة أن القرار جاء لتنفيذ التعديل التشريعى الذى أقر العام الماضى من المجلس المنحل بجعل الثانوية العامة على عام واحد بدلا من عامين، حيث كان يتم دراسة 10 مواد على عامين، فلما أصبحت عاما واحدا كان لابد من إلغاء عدد من المواد الدراسية، لاسيما وأن هذا التعديل التشريعى جاء لإصلاح الثانوية لتكون كما كانت فى الماضى البعيد والتى تخرج منها الآباء والأجداد. ولكن غاب عن سعادته أن الآباء درسوا كل المواد الدراسية وعلى رأسها الفلسفة والمنطق، وأنه كان هناك نظام تعليمى متكامل يحكمه رؤية ومنطق، كما أن العالم كله كان يطبق أنظمة تعليمية متقاربة الهدف والشكل والمحتوى. أما ما نراه الآن فهو سمك لبن تمر هندى، يثبت أن العلم فى الرأس وليس فى الكراس.
صحفية متخصصة فى التعليم