لكل دولة نظام سياسى، ولكل نظام سياسى قواعد لتسيير اللعبة السياسية، والمقصود بقواعد اللعبة أى مجموعة القوانين المكتوبة والقواعد السياسية العرفية غير المكتوبة التى تحدد شكل التفاعل بين عناصر النظام السياسى بمعناه الأوسع من فاعلين سياسيين رسميين وغير رسميين، وهو ما يشمل القواعد الرسمية والعرفية المنظمة للعلاقة بين البرلمان والسلطة التنفيذية بشقيها (مؤسسة الرئاسة والحكومة) والأحزاب والتيارات السياسية والنقابات والاتحادات والمنظمات غير حكومية.. إلخ.
تحليل تلك القواعد مهم جدا لفهم كيفية إدارة النظام السياسى للدولة وفهم فرص ومساحات اللاعبين السياسيين سالفى الذكر، وهو بدوره ما يساعد على فهم مستقبل الحياة السياسية ومصير مؤسساتها، الأمر الذى قد يساعدنا على فهم مستقبل نخطو إليه سياسيا وهو السؤال المرهق لكل باحثى العلوم السياسية بشكل خاص والاجتماعية بشكل أعم.
والمتابع لقواعد اللعبة السياسية فى مصر منذ عهد الجمهورية يجد استقرار نسبيا بها مع تغيرات طفيفة ارتبطت عادة بحسابات للعوامل الإقليمية والقوى الدولية، فمصر فى عهد عبد الناصر كانت دولة اشتراكية بامتياز لا تسمح بالتعددية الحزبية، فلا حزب سوى حزب السلطة (الوطن) ولا خطاب سياسى أو إعلامى غير خطاب النظام، وهكذا تم تأميم كل مظاهر الحياة السياسية، فحزب واحد، وقناة إعلامية واحدة، وصحف قومية غير مستقلة عن النظام، بل ومؤسسات دينية مؤممة لصالح السلطة، ساعد عبدالناصر على ذلك مشروعه العروبى القومى الذى وفر له دعما داخليا وإقليميا بل وعالميا غير مسبوق، فضلا على إنجازاته الداخلية فى إعادة توزيع الثروات وبناء الدولة وهو ما ساعده فى تجاوز أى تكلفة سياسية مرتفعة حقيقة لسياسات القمع والتأميم على الأقل حتى ١٩٦٧. أما فى عهد السادات، فبعد فترة من الجمود السياسى، قرر مع خياره للسلام مع إسرائيل وتحويل دفة الرهان الدولى من الاتحاد السوفييتى إلى الولايات المتحدة أن يقوم بفتح منابر تعددية محدودة، وذكاء الرجل هنا أنه قرر تجنب تكلفة سياسية باهظة كان سيدفعها لو تمسك بنموذج الحزب الواحد فى عهد سلفه، فتحرير الاقتصاد والانفتاح الدولى والمصالحة (السلام) مع إسرائيل كان يعنى ضرورة تحرير البيئة السياسية، وهو ما فعله بفتح تجربة المنابر (مع إبقاء يد السلطة متوغلة ومتحكمة بها)، فضلا على إنشاء مجلس الشورى بجانب مجلس الشعب حتى لو حصل الأول على صلاحيات استشارية ولكن بحساب وقتها كان ذلك يعد ذكاء وتحديثا سياسيا.
كانت المشكلة فى عهد مبارك، ذلك أنه حاول الإبقاء على قواعد لعبة السادات (حزب واحد قوى وتعددية سياسية مقيدة) مع برلمان ضعيف مكون من غرفتين إحداهما بقيت شكلية ومسيطر عليها بواسطة السلطة التنفيذية. ورغم أن تغييرا لاح فى الأفق بعد عام ٢٠٠٥ ولكن تم التراجع عنه سريعا فى ٢٠١٠ ليدفع مبارك ثمنا سياسيا باهظا نتيجة إدارته للدولة بقواعد لعبة السبعينيات، بينما كنا فى العقد الثانى من الألفية الثالثة. هذا ببساطة التحليل السياسى العام لأسباب ودوافع ثورة يناير بعيدا عن هيستريا المؤامرات التى تتبناها السلطة مما حدث فى ٢٠١١.
•••
هذه المقدمة الطويلة تخلص بنا إلى نتيجة حتمية فى الممارسة السياسية وهى أن قواعد اللعبة السياسية الصالحة فى زمن ماض لا يمكن أن تصلح لزمن حاضر ولو عنَد من عنَد، فالتكلفة السياسية ستكون وخيمة، لأنه لا يمكن الحفاظ على نفس القواعد وتغييرات جمة ومتتابعة تحدث فى البيئات الداخلية والإقليمية والدولية. أقول هذا لأننا ومنذ ٢٠١١ لم نشهد بعد قواعد ثابتة للعبة، ولكن كل المؤشرات تؤكد أن النظام الحالى رغم كونه انتقاليا إلا أنه يسارع الزمن لوضع قواعد سياسية جديدة تتمتع بالثبات النسبى لما هو قادم فى المحروسة، وبتحليل ما اتخذ من إجراءات وسياسات وقوانين منذ يوليو ٢٠١٣ وحتى اليوم قد يمكننا من تحديد ملامح هذه القواعد الجديدة، والتى نبدأها اليوم بالحديث عن مستقبل الأحزاب السياسية فى المعادلة المقبلة ولو شئنا وضع عنوان كبير لمستقبل الأحزاب السياسية فى اللعبة الجديدة لقلنا «تقييد التعددية الحزبية»، وذلك من خلال عدة أدوات على النحو التالى:
أولا: استقطاب الدولة ودعمها للأجيال الأكبر والأكثر محافظة للأحزاب المختلفة بما يمكن هذه الأجيال وأفكارها ومصالحها من الهيمنة على قواعد العمل داخل الأحزاب، مع تهميش الشباب واستبعادهم من مراكز صنع القرار داخل هذه الأحزاب. هذه القاعدة ستوفر للدولة فرصة تبنى سياسات محافظة مع تجنب ضوضاء المعارضة الشابة المقلقة والفتية، لكن فى مقابل هذه الفرصة سيكون الثمن هو الشيخوخة المبكرة للعمل الحزبى ومن ثم السياسى، وبينما احتاج نظام مبارك مثلا ربع قرن لتبدو شيخوخته ظاهرة، فإن الثمن هذه المرة أن النظام سيولد كهلا، وما يعنيه ذلك من العجز عن التواصل مع مطالب الشارع المتسارعة.
ثانيا: ستحرص الدولة على ترديد خطاب سياسى حزبى لا يصنف الأحزاب كحاكم ومعارض ولكن كوطنى وخائن، وهو ما ظهرت إرهاصاته واضحة بالفعل من الآن، وهو ما سيعطى للنظام فرصة سياسية فى تقليم أظافر أحزاب المعارضة بحيث يتم استخدام خطاب الوطنية كفزاعة للمعارضين لكن تكلفة هذه الأداة ستكون متمثلة فى دفع بعض أحزاب المعارضة الحقيقية أو رموزها إلى البحث عن وسائل غير تقليدية للمعارضة تخرج بعيدا عن الإطار الحزبى المؤسسى الرسمى لتجنب وصم الحزب بالعمالة إلى عمل أكثر رحابة وشبكات أكثر ميوعة لمعارضة النظام، وهو ما سيكلف النظام سريعا ثمنا فادحا متمثل فى تشتته بين مواجهة الحزبى الرسمى والسياسى غير الرسمى، وسيتمثل الأخير فى حركات وجمعيات أكثر رحابة من العمل الحزبى على غرار الجمعية الوطنية للتغير أو كفاية.. إلخ.
ثالثا: أغلب الظن أن الدولة ستنحاز إلى النظام الفردى فى الانتخابات مع استبعاد أو تهميش نظام القائمة، وهو ما سيوفر فرصة للنظام وأحزابه فى الهيمنة على العملية السياسية والتشريعية من خلال خلخلة قدرة الأحزاب فى السيطرة على أعضائها، بحيث تصبح لشبكات المال ورجال الأعمال والعصبيات والقبليات السطوة على العمل الحزبى، بحيث لا يكون الأخير بالنسبة لتلك الشبكات التقليدية سوى واجهة اجتماعية لممارسة السياسة، ستوفر هذه الأداة أيضا فرصة للسلطة التنفيذية الهيمنة على عملية التشريع لأن النظام الفردى لن يمكن الأحزاب من الحصول على الأغلبية التى يشترطها دستور ٢٠١٤ لتشكيل الحكومة، وهو ما يعضد فرص تشكيل حكومات أكثرية معتمدة على تألف عدد كبير من الأحزاب والشخصيات المستقلة بما يسهم فى النهاية فى خلق حكومات تحت سيطرة الرئيس أولا وكليهما (الرئيس والحكومة) لهما السطوة فى مواجهة البرلمان المفتت ثانيا، لكن تكلفة هذه الأداة أيضا عالية، فمع ضعف البرلمان والأحزاب فى مقابل التنفيذيين ستتلاشى الرقابة على أعمال الحكومة، وفى كل التجارب العالمية كان ثمن ذلك هو تفشى الفساد بشقيه السياسى والإدارى وكفى بهما تكلفة!
رابعا: يتبقى لدى الدولة أخطر أداة لتقييد التعددية الحزبية ألا وهى المادة ٧٤ من دستور ٢٠١٤، والتى تقوم بحظر إنشاء الأحزاب السياسية على أساس دينى، وهى عبارة شديدة العمومية ستترك للسلطة مساحة واسعة فى تحديد وتعريف «الأساس الدينى» لاستبعاد ما ترى من أحزاب معارضة ومناوئة وترك أخرى مسالمة وطيعة بغض النظر عن معنى الأساس الدينى الوراد فى الدستور، وهو ما يعطى فرصة للنظام فى استئناس الأحزاب الدينية (الإسلامية بالأساس) واستبعاد تلك المعارضة لها، بل وربما منع إنشاء أحزاب أخرى جديدة ليست على هوى النظام بدعوى «الأساس الدينى»، ولكن فى مقابل ذلك سيتكبد النظام تكلفة مرتفعة للغاية بحيث تعود المعادلة القديمة لمواجهة الأحزاب والتيارات الإسلامية المعارضة تحت الأرض مرة أخرى وقد أظهرت التجربة المصرية أن العمل السياسى الإسلامى السرى كلف النظام كثيرا!
•••
وهكذا تبدو فرص التعددية الحزبية مستقبلا محدودة، وكل المؤشرات تدفع بالاعتقاد أن التعددية المقيدة هى إحدى قواعد اللعبة التى سينتهجها النظام القادم، لكن إلى متى وبأى تكلفة سياسية، وهل سيتحمل النظام هذه التكلفة وخاصة وهو يستدعى نموذج سبعينياتى محدث فى ألفية ثالثة وبعد ثورتين؟ وماذا لو أضفنا صعوبة إنشاء حزب واحد قوى يعتمد عليه النظام مثلما فعل ناصر والسادات ومبارك ومرسى على التوالى، خاصة بعد تشرذم الحزب الوطنى؟ التعددية هى الحل وبغير ذلك سيدفع النظام تكلفة سياسية باهظة.