فى كتابه الهام الصادر أخيرا عن دار المرايا (القاهرة/2021) بعنوان «سردية الربيع العربى ورهانات الواقع» يعيد الأستاذ هشام جعفر– بسرده المحكم ولغته الرائقة وتحليله الدقيق المتابع لجميع التطورات المحلية والإقليمية والدولية ــ بناء سردية الربيع العربى فى صورة نموذج انتفاضى عربى يفاجئنا على مدى عقدٍ من الزمان بقدرة الإنسان العربى وبالأخص الأجيال الشابة منه على «الانتفاض» فى موجتين الأولى عام 2011 والثانية عام 2019، متحديا الأحكام التاريخية السائدة عن عجزه و«شقائه» من قبل بعض الباحثين والخبراء وبيروقراطيى المنظمات الدولية. وهو نموذج تفسيرى يقوم على محورية الإنسان كفاعل تاريخى وقداسة الحرية كمطلب إنسانى متجدد عبر الأجيال، وهو يستوعب دلالات انتقال الأولوية فى وعى المواطن العربى من جدالات الهوية وصراع المرجعيات الفكرية المتعددة إلى الملفات الاقتصادية والاجتماعية وخطاب المعاش اليومى. ويؤمن هشام جعفر بقدرة هذه الانتفاضات المتوالية على الإسهام التاريخى فى تجاوز أزمة دولة ما بعد الاستقلال وعلاج ظاهرة تهاوى وعجز الحركات السياسية الإسلامية والعلمانية التى تستند إلى أيديولوجيات شمولية عن إنجاز التغيير المنشود. وهو يرى فى وقائع الربيع العربى بموجتيه الأولى والثانية، تجسيدا لتطلع الشعوب العربية وخاصة الفئات الشابة منها إلى الحرية والعدالة الاجتماعية والحكم الرشيد كما أنه احتجاجٌ على الفساد ورأسمالية المحاسيب وسوء توزيع الدخل بين الطبقات فى المجتمعات العربية.
ويرى هذه الوقائع تعبيرا عن تحولٍ تاريخى فى المنطقة يعلن نهاية الصيغ القديمة فى السياسة والثقافة والاجتماع وبحثا عن جديدٍ لم يتبلور بعد. فالمنطقة تعيش فى طورٍ انتقالى بين حقبتين: قديمٌ مرتحل وجديدٌ لم يتمأسس بعد. وهو يصيغ المشكل التاريخي– كما تدركه قوى التغيير فى المنطقة العربية وكما تطرحه الانتفاضات العربية المتوالية ــ بأنه إعادة بناء دولة ما بعد الاستقلال بتجديد أصولها وإصلاح هياكلها من خلال عقد اجتماعى جديد جوهره بناء نظام ديمقراطى تشاركى تعددى، قادر على تلبية الحاجات الأساسية للمواطنين مهما اختلفت انتماءاتهم الفكرية والدينية والإثنية والجهوية. ومن جانب آخر، ينتقد هشام جعفر فى سرديته ــ فى شجاعةٍ ووضوح ــ قصور انتفاضات الربيع العربى التى غلب عليها الاحتجاج وعجزت عن بلورة قاعدتها الاجتماعية الحاضنة والدافعة لها، فظلت كما يرى كاتب هذا المقال برغم مظاهرها القيمية والثقافية العميقة والمخلصة مجرد «أسطورة» مشرقة تمنحنا بعض الرجاء فى ظلمة تاريخ «الشقاء العربى» (باستخدام تعبير الأستاذ سمير قصير فى كتابه الشهير «تأملات فى شقاء العرب» من إصدار دار التنوير).
***
وفى بحثه الجاد والمبدع ــ المتفاعل مع معطيات ومدركات زمن ما بعد الربيع العربى ــ عن مفردات «خطاب إسلامى جديد» وفى فصلٍ من الكتاب بعنوان «الإسلاميون والانتفاضات العربية» (ص 53)، يشرع هشام جعفر فى طرحٍ رصين لملاحظاته النقدية حول أداء حركات الإسلام السياسى فى حقبة الربيع العربى وما بعدها سواء وهى فى موقع المعارضة أم فى سدة الحكم. ففى الموجة الأولى من ذلك الربيع عام 2011، كانت حركات الإسلام السياسى فى موقع المعارضة التى تكافح ضد الحكام والأنظمة القائمة فى مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا والبحرين. أمَا فى الموجة الثانية عام 2019، ففى ثلاثٍ من الحالات الأربع ــ الجزائر والسودان والعراق ولبنان ــ كان الإسلاميون إما حكاما وإما داعمين للنظام القائم. وينتهى هشام جعفر فى تحليله المُطَوَّل لأداء حركات الإسلام السياسى فى حقبة الربيع العربى بانطباع رئيس حول «تطبيع» هذه الحركات السياسية الإسلامية مع الواقع العربى، بما يعنى انتهاء «الاستثنائية الإسلامية» التى حاول أن يصمها بها تابعوها ومعارضوها على حدٍ سواء. وهو يصل فى نهاية تحليله إلى حكمٍ قاسٍ يتعلق بفشل حركات الإسلام السياسى فى تقديم البديل للدولة العربية المتأزمة:
«... والأهم أن الربيع العربى بموجتيه أثبت بما لا يدع مجالا للشك أنهم لا يملكون مشروعا فارقا للسلطة بل يتصرفون كأى حاكمٍ عربى: الانتهازية السياسية التى طبعت تجربة وممارسة كثيرٍ منهم فى الحكم وخارجه، وتقلبات مواقفهم وتحالفاتهم وتعدد انتقالاتهم من خندقٍ إلى آخر، وتفشى مظاهر الفساد فى بعض أوساطهم، أسقط عنها لباس «التقوى» وأزاح من فوق رءوس قادتها «هالة القداسة».. إذ أثبتت السنوات الأخيرة أن المشروع فى بنيته السياسية متهافت إلى درجةٍ لا تؤهله ليكون مشروعا للحكم يقدم البديل للدولة العربية المتأزمة». (ص 58)
ويجادل هشام جعفر أن غياب مكون «الحرية/الديمقراطية» على مدى القرنين الأخيرين قد جرَ عديدا من الكوارث على الأمتين العربية والإسلامية. وهو يرى محورية ذلك المكون كمدخلٍ للنهضة:
«... فلا نهضة من غير ديمقراطية (تجربة محمد على)، ولا استقلال وطنيا من غير ديمقراطية (تجربة عبدالناصر)، ولا محافظة على مكاسب الحرب من غير ديمقراطية (تجربة السادات)، ولا توزيع عادل لموارد التنمية من غير ديمقراطية (تجربة مبارك)، ولا حفاظ على الدولة الوطنية من غير ديمقراطية (تجربة نظام 3 يوليو 2013)، وأقول لا إسلام من غير ديمقراطية (تجربة البشير وآل سعود وغيرهم كثير)». (ص61)
وفى هذا السياق يطرح هشام جعفر تحديا فكريا جديدا على أتباع الإسلام السياسى الذين يسعون إلى إقامة «نظام إسلامى» يتمثل فى دولة تُحْكَمْ بالشريعة وتفرض القوانين الأخلاقية الخاصة بها فى المجتمعات الإسلامية ويظل هدفها الأساس هو إقامة المجتمع العقائدى المستند إلى «واجبات الرعايا» وليس «حقوق المواطنين». فهو يرى أهمية أن تُقَدَم «الحرية» باعتبارها منظورا إنسانيا شاملا يتأسس عليه الإيمان الدينى ويحكم حركة التكليف الشرعى ويكون مناطه الإرادة الفردية الحرة. ثم يطرح واحدا من أهم اجتهاداته فى هذا الكتاب عن موقع السلطة فى تطبيق الشريعة وأهمية أن تخلى السلطة بين الناس وتفاعلهم مع النص المُنْزَلْ، فينشئوا تجربتهم فى الاجتماع والسياسة والاقتصاد والمؤسسات، وهذا يجعل من التطبيق الإسلامى مفتوحا على تجارب متعددة ونماذج مختلفة.
***
ويشير هشام جعفر فى نهاية فصول الكتاب إلى ضرورة تصالح الجميع مع هويتهم الوطنية، وفى مقدمتهم الإسلاميون الذين لم يعترفوا بها ولم يستطيعوا أن يخلقوا صياغات جديدة فى علاقة بين الهوية الوطنية والثورات الديمقراطية وبين الانتماء العربى والإسلامى. وهو يوجه كلامه إلى المصريين طارحا الهدف الأساسى الذى يجب أن يجتمعوا حوله ألا وهو:
«الحفاظ على الدولة المصرية من عمليات التحلل التى أصابتها بإصلاح مؤسساتها وتجديد أصولها، عن طريق بناء نظام ديمقراطى تعددى تشاركى قادر على تلبية الحاجات العامة للمصريين بما يحفظ أمنهم الإنسانى والقومى».