بوقع السنين وعددها وما ترمز إليه فى الذاكرة العامة فإن مرور خمسين سنة على هزيمة يونيو (١٩٦٧) يدعو للوقوف أمام المرآة ونواجه أنفسنا بالحقيقة.
ظلال الهزيمة ما زالت ماثلة حتى الآن، كأنها لم تغادر المسرح أبدًا.
هذه ظاهرة يصعب نفيها.
عبرت مصر قناة السويس بقوة السلاح فى أكتوبر (١٩٧٣)، وكان يفترض أن تعبر أى مشاعر لحقت الهزيمة، لكنها تكرست.
لماذا حاربنا وضحينا؟
فى السؤال شىء من هزيمة الروح.
النتائج ناقضت التضحيات والسياسة خذلت السلاح.
كان الوجه الآخر لتبديد ثمار النصر فى أكتوبر هو تكريس الهزيمة فى يونيو.
بدا الأمر مقصودًا حتى لا تثق مصر فى نفسها مرة أخرى حتى وصلنا إلى حافة الخروج من التاريخ.
ما هو متوافر ـ حتى الآن ـ شهادات لقادة عسكريين يدافعون فيها عن أنفسهم، أو يتهمون آخرين بالمسئولية.
حسب المثل الشائع فإن «الهزيمة يتيمة والنصر له ألف أب».
تلك الشهادات ـ رغم أهمية بعضها ـ لا تؤسس لرواية مصرية موثقة ومتماسكة ومصدقة.
وثائق يونيو مودعة فى خزائنها، والخزائن عليها أقفال ومتاريس.
ليس من مصلحة مصر حجب ما تقصته لجنة برئاسة اللواء «حسن البدرى» المؤرخ المعتمد للجيش المصرى بعد يونيو مباشرة عن أسباب الهزيمة بالأسرار والخرائط.
لم يعد هناك سر واحد خاف على أحد فى العالم.
تتوافر آلاف الوثائق عن يونيو وأسرارها غربية وإسرائيلية دون أن تكون هناك رواية مصرية واحدة لها صفة الرسمية.
الدول تنشر وثائقها السياسية والعسكرية بعد عدد معين من السنين لتضع الحقيقة أمام مواطنيها ـ أيا كانت مرارتها ـ حتى لا تتكرر أى أخطاء جرت فى الماضى.
الأمر نفسه نفتقده فى حربى «الاستنزاف» و«أكتوبر».
هناك شهادات ودراسات نشرت لكن الوثائق قضية أخرى.
للوثائق كلمة أخيرة تجيب عن كل الأسئلة: كيف هزمنا ولماذا؟ وكيف قاومنا وصمدنا حتى عبرنا الهزيمة فى أكتوبر؟ ثم كيف أجهضت النتائج السياسية؟
هناك فارق بين مراجعة التاريخ بالوثائق المثبتة لإدراك حقائقه وتصحيح الذاكرة العامة وبين تعميق الشعور بالهزيمة كقدر إغريقى لا يمكن الفكاك منه، أو نفى أسبابه.
بلغة الوثائق يتأسس الاتفاق والاختلاف على قاعدة معلومات صلبة.
كانت هزيمة يونيو كارثية بأى معنى عسكرى وتسببت الثغرات السياسية فى بنية نظام الحكم أن تأخذ حجمها الخطير.
ذلك جانب أول فى الواقعة التاريخية لا سبيل إلى إنكاره، أو التحلل من مسئوليته.
وقد جرت مراجعتان على قدر كبير من الأهمية.
الأولى، إعادة تصحيح دور القوات المسلحة، أو دخولها إلى غير أدوارها.
أعيد بناؤها من تحت الصفر تقريبا وفق مواصفات الجيوش الحديثة، التى تعلى من شأن الكفاءة والاحتراف وتمنع الانشغال بالسياسة.
وأسندت مسئوليتها إلى نخبة من العسكريين الأكفاء فى القيادة العامة، كما فى جميع الأسلحة.
بصورة أو أخرى تصدر المشهد العسكرى المصرى أفضل ما فى البلد من كفاءات متاحة.
وكانت الوطنية المصرية مستعدة أن تقدم كل ما لديها من طاقات عطاء ودم بإيمان حقيقى أن البلد تحارب معركة وجودها ومستقبلها.
لم تكن مصادفة بعد أيام من الهزيمة أن تفرض قوات محدودة فى «رأس العش» كلمتها على الإسرائيليين وتوقع بهم خسائر فادحة فى لحظة انتشاء عسكرى.
بهذه الروح تمكنت القوات المصرية من خوض حربى «الاستنزاف» و«أكتوبر»، وكان الجندى المصرى العادى بطلهما بلا منازع.
كان ضروريًا لإعادة بناء القوات المسلحة على أسس احترافية تصفية أوضاع قديمة تسببت فى الهزيمة منها التدخل فى الحياة السياسية، ومنها ما هو منسوب للمخابرات العامة على عهد «صلاح نصر» من انحرافات جرى التحقيق فيها.
بعض التحقيقات سربت وأغلبها ما زال مودعًا فى خزائن الدولة، ولا يصح أن تظل فى مكامنها إلى الأبد بعيدًا عن علم الرأى العام وحقه أن يعرف ما حدث بالضبط.
والثانية، إعادة النظر فى طبيعة النظام نفسه.
وقد ترددت فى المراجعات، التى احتوتها محاضر رسمية للجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى شارك فيها الرئيس «جمال عبدالناصر»، عبارات «المجتمع المفتوح» و«دولة المؤسسات»، كما بدأ التفكير فى التحول إلى التعددية الحزبية.
بنفس الوقت بدأت بالجامعات المصرية أقوى وأطول حركة طلابية على خلفية الهزيمة العسكرية، تدعو إلى تعبئة الجبهة الداخلية لمتطلبات القتال على الجبهة الأمامية وتوسيع المشاركة السياسية فى اتخاذ القرار.
هكذا استأنفت مصر المواجهات العسكرية.
شاع وقتها شعار «يد تبنى ويد تحمل السلاح».
البناء والحرب معًا، القتال والتصحيح فى نفس الوقت.
مثلت الهزيمة تراجعًا فادحًا فى المشروع القومى، لكنها لم تكن نهاية المطاف.
كانت السنوات التى أعقبت الهزيمة أفضل سنوات العسكرية المصرية، وأفضل سنوات «جمال عبدالناصر»، بالنظر إلى حجم العطاء الذى بذل.
أرجو ألا ننسى أن المصريين قرروا وسط ظلام الهزيمة عدم الاستسلام وأعلنوا المقاومة فى تظاهرات (٩) و(١٠) يونيو المليونية التى كلفت «عبدالناصر» استئناف القتال.
كانت المقاومة بالسلاح والدماء الجانب الآخر فى قصة يونيو وما بعدها.
هكذا يبدو تعبير «النكسة»، الذى صكه الأستاذ «محمد حسنين هيكل» فى خطاب «التنحى»، الأكثر دقة بوصف الإرادة المصرية الكامنة عند لحظة هزيمة عسكرية.
معنى التعبير أن الهزيمة مؤقتة، وأنه يمكن تحديها وتجاوزها بتصحيح وتصويب أسبابها.
بالنتائج العسكرية ثبت صحة وصف «النكسة».
غير أن المفارقة الكبرى أن ما هو مؤقت من انكسار عسكرى تحول بالإدارة السياسية لحرب أكتوبر إلى إقرار متأخر بالهزيمة.
بين تحولات السياسة والانقلابات الاستراتيجية نشأت صناعة الهزيمة فى الوجدان العام، فـ«أكتوبر آخر الحروب»، و«لن نحارب بالنيابة عن الفلسطينيين والعرب لآخر جندى مصرى»، كما تردد على نطاق واسع فى الخطابين الإعلامى والسياسى.
جرى تسطيح قضية الصراع العربى الإسرائيلى، وقضية الأمن القومى المصرى الذى دافعت عنه قبل أى شىء آخر.
أهدرت التضحيات الهائلة التى بذلت فى ميادين القتال، ونشأت طبقة جديدة وصفت فى البداية بـ«القطط السمان» لتساند السلام مع إسرائيل.
شعر جيل كامل وهب حياته لقضية تحرير بلاده بقوة السلاح بالخديعة الكاملة، فقد حارب من أجل حلم ليستيقظ على كابوس.
كانت تلك هى الهزيمة الحقيقية، التى أرادوا إخفاءها وراء تكريس «عقدة يونيو» فى الوجدان العام جيلا بعد آخر.