عندما كنت سفيرا لمصر لدى السعودية، حضرت حفلا لتوزيع الجوائز أقامته مؤسسة الملك فيصل الخيرية، وكان من بين الفائزين باحث مصرى ــ للأسف لا أذكر اسمه الآن ــ نال الجائزة عن تاريخ المطاريد والدخلاء فى شبه الجزيرة العربية.. والطريد هو عضو القبيلة المارق الذى تطرده قبيلته وتتخلى عنه وتسحب عنه حمايتها، فيظل يجوب الصحراء ويعرض نفسه على القبائل فإن قبلته إحداها فحينئذ يطلق عليه اسم الدخيل..
وعندما قرأت المطالب الـ 13 التى قدمت لقطر ومحتواها والأسلوب التى صيغت به وإنذار الأيام العشرة والتهديد بالطرد من مجلس التعاون، تذكرت هذا البحث وأيقنت أن الدبلوماسية التى صاغته هى ودبلوماسية «الطريد والدخيل» المستمدة من التقاليد البدوية، كما أيقنت أن الدبلوماسية المصرية كانت بعيدة عن صياغة هذه المطالب.
ففى الصراعات الدولية يكون كسب الرأى العام العالمى من أهم مقومات النجاح.. شاهدنا ذلك فى أمثلة كثيرة فى نواح كثيرة من العالم وفى أنفسنا.. فى مصر.. خذ مثلا النجاح فى كسب الرأى العام العالمى عام 1956 ضد العدوان الثلاثى والفشل فى عام 1967 (عام النكسة).. ففى 1956 نجحت مصر بمهارات الدبلوماسية المصرية بقيادة الدكتور محمود فوزى وبمساعدة كريشنا منون الدبلوماسى الهندى القدير رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة فى ذلك الوقت فى أن يرى العالم الصراع بأبعاده الحقيقية... الدولة الصغيرة التى تتعرض لعدوان إمبراطوريتين استعماريتين (بريطانيا وفرنسا) ومعهما إسرائيل.. بينما فى عام 1967 حدث العكس نتيجة لإخفاقات وأخطاء كثيرة ارتكبناها جعلت العالم يصفق للمعتدى (إسرائيل) مثل طرد قوات الطوارئ الدولية وتلغيم مضيق تيران ورفض قرار مجلس الأمن الذى ناشدنا إعطاء فرصة 15 يوما لالتقاط الأنفاس وإتاحة الفرصة للجهود الدبلوماسية ثم استقبال أوثانت أمين عام الأمم المتحدة فى ذلك الوقت لدى وصوله إلى القاهرة حاملا قرار مجلس الأمن بمظاهرات تهتف: هنحارب.. هنحارب، وتم رفض مهلة الأسبوعين فكانت الحرب ونكسة 5 يونيو 1967 وهو اليوم الذى يعتبره كثير من المحللين التاريخ الحقيقى لمولد إسرائيل، ولم تكسب إسرائيل حربها العدوانية فقط بل كسبت معركة الرأى العام العالمى...
***
ها نحن بتقدمنا بالـ 13 مطلبا لقطر وعدم التركيز على مطلب واحد: «وهو رعايتها للإرهاب وإيواؤها لقادته»، قد أتحنا الفرصة لها لتمويع القضية الرئيسية.. فقد تاهت قضية رعاية الإرهاب وسط الضجة العالمية لمطلب «إغلاق قنوات الجزيرة والقنوات التابعة لها وإغلاق جميع وسائل الإعلام التى تدعمها قطر !!».. وهو الأمر الذى أثار استنكارا عالميا.. خاصة فى الدول التى تعتبر حرية التعبير والحق فى المعلومات من رواسخ ثقافتها وهذا لا يعنى أن قطر من هذه الدول، فنظامها الداخلى لا يختلف عن النظم القمعية فيما حولها وحكامها لا يتحملون أدنى مساحات النقد فقد نال الشاعر القطرى محمد العجمى ــ مثلا ــ حكما بالسجن المؤبد لإلقائه قصيدة تتضمن تعريضا بنظام الحكم.
***
المطالبة بإغلاق قناة الجزيرة مطلب يدين أصحابه ويؤكد أنها أنظمة قمعية لا تطيق النقد ولا تسمح بالرأى الآخر.. فالسعودية والإمارات لديها من الإمكانيات المالية ما سمح لهما بتملك قنوات لا تقل عن إمكانيات الجزيرة.. حققتا نجاحات كبيرة وانصرف كثير من الناس عن قناة الجزيرة.. أما الآن فقد عاد إليها الكثيرون على الأقل لسماع وجهة النظر الأخرى.
إن المطالبة بإغلاق قنوات الجزيرة ذات الانتشار العالمى أمر مسىء لنا كما أنه يساعد قطر على الخروج من المأزق ويحيط الأزمة بكثير من الضباب وفقدان بؤرة التركيز على لب القضية.. لقد وصف مقرر الأمم المتحدة هذا المطلب بأنه «ابتزاز غير مقبول»، كما أدانته رابطة «مراسلون بلا حدود»، وأدرجته دول عديدة مثل ألمانيا وفرنسا واليابان وحتى الولايات المتحدة ضمن المطالب غير المقبولة.. فمطلب إغلاق القنوات هو مطلب «الإفلاس عن دفع الحجة بالحجة».
ثم يأتى بعد ذلك «مطلب الإغلاق الفورى للقاعدة العسكرية التركية ووقف أى تعاون عسكرى مع تركيا».
فإذا أخذنا فى الحسبان أن الولايات المتحدة تمتلك قواعد جوية أو بحرية فى جميع دول الخليج وأكبر هذه القواعد هى قاعدة «العديد» بقطر.. فما هو المنطق هنا.. ثم أليس من حق أى دولة ذات سيادة أن تقيم علاقات عسكرية وغير عسكرية مع الدول الأخرى؟ إلا لو كانت دولة تحت الوصاية.. والحالة الوحيدة الثانية ــ غير الدولة الخاضعة للوصاية ــ هى أن يكون حظر إقامة العلاقات العسكرية مع دولة ما هو تنفيذا لقرار ملزم صادر من مجلس الأمن أو توصية من الجمعية العامة للأمم المتحدة لها قوة الإلزام الأدبى.
ثم المطالبة بخفض التمثيل الدبلوماسى مع إيران فى الوقت الذى تحتفظ فيه بعض دول مجلس التعاون الخليجى بعلاقات على مستوى السفراء مع إيران، فضلا عن إقامة العلاقات وتحديد مستواها من الحقوق السيادية للدول ولا يحق لطرف ثالث أن يتدخل فيها.
بالنسبة لمصر فإيران ليست عدوا كما صرح بذلك وزير خارجيتنا الأسبق الدكتور نبيل العربى، وليس لدينا هاجس البارانويا الذى يتملك السعودية وأبوظبى تجاه إيران (ولا أقول كل الإمارات، فدبى لها أوثق علاقات بإيران) وهو الهاجس الذى جعل قضية العرب الأولى.. القضية الفلسطينية تتراجع إلى المركز الثالث.. وهو الهاجس الذى أحال أعداء الأمس (إسرائيل) إلى أصدقاء اليوم حسب تعبير نتناهو.. حيث أصبحت إيران هى العدو المشترك.
***
كلمة أخيرة خاصة بالشكل الذى قدمت به «المطالب» والنواحى الإجرائية.. لقد أطلقت الدول الأربع كل ذخيرتها مرة واحدة ولم يبق إلا الحرب.. وكان من الأوفق دبلوماسيا أن يعتمد النهج التصاعدى Incremental، كما لم تراعَ الجوانب الإنسانية.. طرد المقيمين وإغلاق المعبر البرى الوحيد.. وغلق الممرات البحرية والجوية.
***
ثم يأتى المطلب الثانى عشر الخاص بأن يتم الموافقة على هذه المطالب خلال 10 أيام وإلا تعتبر لاغية.
هذا المطلب جعل الوثيقة تبدو كأنها إنذار موقوت بزمن Ultimatum مثل الذى يقدم قبل شن الحرب، وليس فتحا للتفاوض.
***
كنت أتمنى لو اقتصرت المطالب على إيواء العناصر الإرهابية وتسليم المطلوبين والكف عن مساعدة المنظمات الإرهابية بالمال والسلاح.. تلك هى لب القضية التى تم إضعافها بمطالب تتعارض مع مبادىء الديمقراطية وحرية التعبير ومع الحقوق السيادية المشروعة للدول.
بالرغم من إعلان قطر رفضها للمطالب، إلا أن باب التفاوض لا يزال ممكنا، فالإعلان كان مصحوبا باستعدادها للحوار.. وكل من يعمل فى الحقل الدبلوماسى يعلم أن المفاوضات الصعبة تبدأ بشروط قد تبدو مستحيلة حيث يتمسك كل طرف بالحد الأقصى للمطالب فى البداية.
إذا أخذنا فى الاعتبار مركز طرفى النزاع فإن الوقت الراهن هو أنسب وقت للتفاوض بالنسبة للدول الأربع حيث يتوافر لديها أوراق كثيرة تسمح لها بالحصول على أهم مطالبها مع ضمانات للتنفيذ من خلال نظام رصد محكم، بينما الطرف الثانى (قطر)، وإن كان قد نجح فى حشد تأييد عالمى لصالحه، إلا أنه فى حقيقة الأمر فى أشد أوقات الفزع من العواقب ومن هول ما جرى.
***
إننى أناشد الدبلوماسية المصرية ألا تدور فى الفلك الخليجى بل تتقدم الصفوف وتدعم الوساطة الكويتية وتخفف من غلواء التصريحات التى تعلن أن المطالب غير قابلة للتفاوض.. فهذا طريق لن يؤدى إلا إلى ارتماء قطر فى براثن إيران وتركيا واشتعال الاضطرابات فى الخليج مع كل ما يحمله ذلك من أخطار غير مسبوقة سوف لا تقتصر على أطرافها.