لم يكن التحريض محض مصادفة - سمير العيطة - بوابة الشروق
الإثنين 9 سبتمبر 2024 6:53 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لم يكن التحريض محض مصادفة

نشر فى : الأحد 4 أغسطس 2024 - 6:00 م | آخر تحديث : الأحد 4 أغسطس 2024 - 6:00 م

لم تكن مصادفة أن ينقل القادة الإسرائيليون حرب الإبادة الجماعية على غزة المستمرة منذ أكثر من عشرة أشهر إلى منطق آخر تصعيدى عبر افتعال حادثة مجدل شمس، وذلك تحضيرا لاغتيالات قيادات كبيرة فى بيروت وطهران. إذ من الواضح أنّ لا نيّة حقيقيّة لديهم فى إيقاف حرب الإبادة والتوصّل إلى اتفاقية تبادل أسرى كما يُزعَم، بل الذهاب إلى «تغيير ديموغرافى» على صعيد واسع، فى غزة وفى الضفة. تماما كما كان الأمر أثناء حرب «النكبة» وفى «تصفيتها العرقية». إن الوصول إلى هدفهم يتطلب شرذمة العرب... طائفيا وبين دولهم، وعلى صعيد آخر حشد الدعم الغربى لحربهم، بما فى ذلك توريط الغرب عسكريا فيها، بالرغم من كل الجرائم ضد الإنسانية وقرارات محكمة العدل الدولية. على الأقل حتى «إنجاز المهمة».

وواضح أيضا أن عمليات تغيير المنطق هذه ذات أبعاد استخبارية عميقة، تماشيا مع تعاليم فن الحرب لسون تزو القائل: «اعرف عدوك ونفسك بشكل جيد ودقيق كى تكسب حربك».

•  •  •

إن الحركة الصهيونيّة قامت منذ تأسيسها على أسطورة أنّ اليهود قوميّة وليسوا دينا ومذاهب وطوائف متعددة فى قوميات مختلفة تترافق مع أسطورة «العودة إلى أرض الميعاد التى طردوا منها». أسطورتان فنّدهما المؤرّخ الإسرائيلى شلومو ساند. وعَمِلَت تلك الحركة بالمقابل، كما الدول الاستعماريّة التى نشأت الدولة الصهيونيّة فى كنفها، على أنّ سكّان بلاد الشام والعرب ليسوا سوى مذاهب وطوائف وقوميات متعددة. ولا بد من إثارة الفتنة بينهم لتحقيق الأسطورة، فهم لا يستحقون أرضهم ودولهم لإخفاء تناقضات أسطورة أرض الميعاد ودولتها.

مجدل شمس، الذى أودى صاروخ سقط فى ملعب لكرة القدم بضحايا أطفالٍ فيها، بلدة يقطُنها مسلمون موحّدون من المذهب الدرزى رفضوا رغم 57 سنة من الاحتلال الإسرائيلى للجولان السورى جنسية الاحتلال والخدمة العسكرية فى جيشه وبقوا على تواصل حثيث وزيجات مع إخوانهم فى «جبل العرب» فى سوريا. لقد انتفضوا مرارا ضد الاحتلال، وهاجموا سنة 2015 خلال أحداث سوريا سيارات الجيش الإسرائيلى التى كانت تنقل جرحى «جبهة النصرة» و«الدولة الإسلامية» لمعالجتهم فى المشافى الإسرائيلية. وتضامنوا هم ودروز الجليل مع دروز سوريا حين قامت «جبهة النصرة» بمجزرة ضدهم فى بلدة قلب اللوزة، كما حين تمّ طرد الدروز من جبل الزاوية قرب إدلب. لكنّهم شهدوا انقسامات فى المواقف خاصّة مع التظاهرات المناهضة للسلطة السورية التى تشهدها السويداء منذ أكثر من عام.

ليست محاولة استمالة الدروز جديدة فى الحركة الصهيونية. فمنذ حرب التطهير العرقى للشعب الفلسطينى خلال عامى 1947 و1948 حيث قامت عصابات الهاجانا بتهديد أهالى البلدات الدرزية فى الجليل بالطرد أسوة بأغلب مواطنيهم السنّة والمسيحيين وبتدمير بلداتهم. فمالَ أغلبهم للحياد، ثمنا للبقاء فى أرضهم. خاصة بعد معاركهم الداخلية بين «كتيبة جبل العرب» فى جيش الإنقاذ وبين «كتيبة السيف» فى الجيش الصهيونى. ثمّ فَرَضَت عليهم «الدولة العبريّة» الخدمة الإلزاميّة سنة 1956. لكنّ دروز الجليل استمروا على تناقضات كبرى حول هويتهم «الوطنية»، بين من أصر على فلسطينيته وعروبته، مثل الشاعر الشهير سميح القاسم، وبين من انخرط فى الجيش الإسرائيلى حُلما بترقية اجتماعية. حلم تداعى كثيرا مع إعلان «يهوديّة الدولة» عام 2018 الذى أدّى إلى انتفاضات واسعة.

رغم ذلك، ما زال جنود دروز يقاتلون مع الصهاينة، ويساهمون فى الإبادة القائمة فى غزة. وقد رفعت جنازة بعض من قتل منهم هناك مؤخّرا صورا لزعيم الثورة السوريّة الكبرى على الفرنسيين سلطان باشا الأطرش ولكمال جنبلاط زعيم الحركة الوطنية اللبنانية المتحالفة مع المقاومة الفلسطينيّة، فى جهد استخبارى صهيونى جلى لاستمالة دروز سوريا ولبنان، قبل مجزرة الأطفال فى مجدل شمس، لتأليبهم على المسلمين السنّة والشيعة على السواء.

الموحدّون الدروز، أو بنو معروف كما يحبوّن تسمية أنفسهم، جزءٌ أصيل من الحضارة العربيّة الإسلاميّة. لقد نشأ مذهبهم فى ظلّ الخلافة الفاطميّة الإسماعيليّة التى أسّست مدينة القاهرة فى مصر – قاهرة المعزّ - وأنشأت جامعة الأزهر وسادت فى القرنين العاشر والحادى عشر بين بلاد الشام والمغرب العربى والحجاز.

قاوم الفاطميّون الغزو الصليبى كما فى دمياط، كما قاومهم الموحّدون الدروز فى بلاد الشام. ويقف اليوم أهمّ وجهائهم وقفة عزّ يتصدون لمحاولات العبث الصهيونى وبث الشرخ بينهم وبين إخوانهم العرب من المذاهب الأخرى. بالتحديد كما أطلق يوما سلطان الأطرش ثورته العربية السورية ضد الاحتلال الفرنسى نصرة لأدهم خنجر الشيعى من جبل عامل اللبنانى الذى احتمى فى بيته بعد محاولته اغتيال الجنرال غورو قائد الحملة الفرنسية.

•  •  •

ليس غريبا أن يلعب الصهاينة على واقع التنوع الكبير العربى الإسلامى والمسيحى كما فعل الاستعمار الأمس واليوم. وليس غريبا أن يَقع البعض فى أفخاخهم، ليس فقط ضمن الموحدين الدروز وحدهم، بل أيضا ضمن المسيحيين والمسلمين السنة والشيعة على السواء، بالأمس كما اليوم.

بالتأكيد من المستغرب ألا يعرف العرب أنفسهم وتنوعهم ويعتزوا به على أنه ثراء حضارتهم وألا يعرفوا أيضا عدوهم جيدا ويميزوا بينه وبين اليهود الشرفاء الذين يرفعون أعلام فلسطين استنكارا لحرب الإبادة، فى القدس كما فى الولايات المتحدة. والمستغرب أيضا أن يتمّ تصوير التطبيع مع استعمار صهيونى على أنه مصالحة مع اليهود. إذ إن اليهود العرب كانوا هم أيضا جزءا من الحضارة العربية الإسلامية، التى تتطورت فيها ثقافتهم وبرز علماؤهم، ولم يشهدوا ضمنها يوما اضطهادا أو مجازر، كما جرى فى أوروبا الشرقية أو فى ألمانيا خلال الحملات الصليبية، أو بعد ذلك فى الأندلس ثم فى ظلّ النازية. ويهود بلاد الشام ساهموا، كما جميع وجهاء المنطقة، فى وضع أول دستور لبلد عربى عام 1920. دستور أجهضه الاستعمار الأجنبى. ودستور على أسس ديموقراطية ما زال مثالا يحتذى به للمستقبل لكثير من الدول العربية، بما فيها فلسطين المدنية المنشودة.

والمستغرب أيضا ألا يتم حقا حشد وسائل الإعلام والتواصل العربية، رغم زخمها الحالى وإمكانياتها، لمواجهة «الهسبرة»، أى السياسة الإعلاميّة المنهجيّة للقيادة الإسرائيلية نحو الخارج عموما والغرب خصوصا، لتبرير الإبادة الجماعية فى فلسطين وشيطنة المقاومة وتفرقة العرب والتغطية على أزمة الكيان الإسرائيلى وجنون قادته وكتم أصوات يهود العالم المناهضين للصهيونية.

إن الأمر أبعد من توثيق جرائم الاحتلال حيال الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين... عربيا. وليس مجرد تبيان وجهتى النظر بين فلسطينيين وبين القائمين على «الهسبرة». لا بد من الخروج من منطق الشرخ بين سنّة وشيعة، وبين «أغلبيات» و«أقليات»، وبين الطوائف والأقوام، الذى كان عماد اللعبة الاستعمارية والمشروع الصهيونى.

لقد اختار القادة الصهاينة الإبادة الجماعيّة والتصعيد. واختار الفلسطينيّون واللبنانيّون وغيرهم المقاومة والتضحية. تضحياتٌ يجب ألاّ تذهب سدى، ليس من أجل مستقبل فلسطين ولبنان وسوريا فقط... بل من أجل أن يبقى ما صنعته الحضارة العربية الإسلامية أساسا لحضارة مستقبلية لدول المنطقة وشعوبها.

سمير العيطة رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب
التعليقات