ثمة شواهد تقول إن شرعية النخبة السياسية تتآكل، وإن الوطن لا يزال فى انتظار نخبة جديدة تمثل إرادة الجماعة الوطنية المصرية، وتعبر بشكل أفضل عن تطلعاتها.
وتآكل شرعية النخبة سببه الرئيس فقدانها الاتصال بالشارع الذى تعالت عليه، وانشغلت عن قضاياه الرئيسية (الأمن والاقتصاد والتطهير كما تشير استطلاعات الرأى) بقضاياها (الخلاف حول أولوية الدستور أو الانتخابات وغير ذلك)، فانفض من حولها.
والانقطاع عن الشارع أفقد النخبة ثقة المصريين الذين ما عادوا يعتقدون بأهلية أى من القوى السياسية للحكم، فالغالبية العظمى من الناخبين (بحسب استطلاعات جالوب) لم تحدد بعد الجهات التى ستصوت لها، ومتصدر السباق الرئاسى إنما يحظى بدعم 13% من المصريين، بالرغم من أن 90% ينوون التصويت، بما يعنى أن نسب التأييد المنخفضة ليست نتيجة لعزوف المصريين عن المشاركة، وإنما لعدم الاقتناع بأهلية المرشحين، رغم محاولات ملء الفراغ القيادى، والتى قام بها قادة حاليون وسابقون فى المؤسسة العسكرية، ومصريون أكثر عولمة (أى من أصحاب الخبرات الأكبر فى المؤسسات الدولية)، وشباب حاولوا إضافة بعض الحيوية للساحة السياسية، وساسة أطلوا عبر الفضائيات.
وبقاء الفراغ يرجح كون المشكل لا فى أشخاص القيادات السياسية فحسب، وإنما فى آليات إفرازهم، إذ يجمع بين هذه الآليات هبوطها بالقيادات السياسية على الشارع من أعلى لا إفرازهم من أسفل، وهو ما يبقى القيادات عاجزة عن فهم تطلبات الشعب وتحدياته، وعاجزة بالتالى عن قيادة مشروعه الحضارى.
والقيادة السياسية التى يمكنها أن تحظى بدعم الشعب والتفافه حولها هى التى تفرز بشكل طبيعى من المجتمع، وتتمثل فى مؤسساته التى تم تحريرها بالثورة، كالنقابات المهنية والعمالية، واتحادات الطلبة، ونوادى أعضاء هيئات التدريس، والمجالس المحلية، والأخيرة لها أهمية خاصة لأنها غير فئوية، وتتطلب التعامل مع مشكلات عموم المواطنين فى منطقة جغرافية محددة لا مع أهل طائفة بعينها سواء كانت وظيفية أو دينية أو اجتماعية.
إن العمل المحلى له فى تقديرى فوائد جمة، فهو أولا يدخل السياسيين العاملين فيه فى إطار مؤسسى، يزيد من خلاله احتكاكهم المباشر بالشارع والمواطنين، فيصيرون أولا أكثر قدرة على التعبير عنه وفهم مشكلاته، وثانيا أكثر دراية بمداخل الفساد ومن ثم قدرته على سدها ومحاربته، وثالثا أكثر قدرة على توليد الحلول العملية للمشكلات فى ضوء الموارد والإمكانيات المتاحة بعيدا عن الشعارات الأيديولوجية الجامدة، ثم إن هذا التفاعل مع المواطنين بعيدا عن الدوائر العليا لصنع القرار السياسى يتيح مجالا أوسع للساسة لترجمة رؤاهم السياسية إلى مشروعات تنفيذية يمكن قياس تأثيرها على المواطنين ومدى رضاهم عنها.
وهذا المسار المحلى يتوازى مع المسار السياسى الجمهورى، الذى تشكل البرلمان بغرفتيه، ومجلس الوزراء، والرئاسة مؤسسات رئيسية فيه، بل لا يمكن لهذا المسار الأخير أن ينجح بغير نجاح الأول، الذى يمثل المفاصل الرئيسية لترجمة السياسات إلى ثمار يلمسها المواطن فى حياته اليومية، والذى يمكن من خلاله تقليص الفساد، وهى مهمة لا يتصور نجاح أى مشروع وطنى بدونها.
وثمة تجارب إقليمية تشير لأهمية المسار المحلى للسياسة، منها التركية، التى كان المزج بين تجربتى جل الجمهورية وأردوغان المحلية سببا رئيسا فى نجاحها، فجل يمثل قيادة سياسية جمهورية مختلفة، إذ هو ابن الطبقة المتوسطة الحاصل على بكالوريوس الاقتصاد من جامعة اسطنبول، استمر فى الدراسة على حصل على الدكتوراة، وفاز فى الانتخابات البرلمانية ثلاث دورات متتالية (1991ــ1995ــ1999) وكان وزير دولة ومتحدثا باسم حكومة أربكان سنة 1996، أى أن خبراته السياسية كانت دوما بعيدة عن المستوى المحلى أقرب للجمهورى، ولم يكن له أن يساهم فى تجربة سياسية ناجحة بغير شراكة أردوغان، ابن الطبقة المتوسطة الدنيا، الذى تخرج فى كلية التجارة بجامعة مرمرة وعمل بائعا للسميط ولاعبا لكرة القدم، ومارس العمل السياسى من خلال المحليات حتى تم انتخابه عمدة لاسطنبول سنة 1994، وظل قائدا محليا ملهما حتى منع من العمل السياسى وسجن لبضعة أشهر سنة 1998، وهذا التحالف بين التجربتين المحلية والجمهورية منح حزب العدالة والتنمية سنة 2002 الأغلبية البرلمانية المطلقة للمرة الأولى فى تاريخ تركيا الحديث، وهو ما تكرر فى انتخابات 2007 و2011.
وليست تجربة أردوغان هى الوحيدة، فهناك تجربة الرئيس البرازيلى السابق لولا دا سيلفا، الذى قدم للرئاسة من السياسة الشعبية العمالية، بعد تاريخ نضالى بدأ فى النقابات والاتحادات العمالية، فكان أقدر على تحقيق العدالة الاجتماعية وتقليل فجوات الدخل، مع المضى قدما فى عملية التنمية، وهناك تجارب أخرى تتفاوت درجات نجاحها ليس هذا مجال التفصيل فيها.
وتتميز تجارب ساسة المحليات بقدرتها على كسر الحلقات المفرغة التى يدور فى فلكها الساسة الجمهوريون، وذلك بقدرتها على تجاوز صراعات النخبة إلى قضايا الشارع، لأن القائمين عليها أكثر انتماء للشارع منهم للنخبة، ومن ثم تكتسب هذه التجارب أهمية مركزية فى لحظات التحول، التى يكون مقصدها قطع الصلة بين ما فات وما هو آت فى الحياة السياسية، وتفتح آفاقا جديدة للممارسة السياسية تتجاوز القوالب التقليدية التى يمارس الجمهوريون السياسة من خلالها.
وإذا كانت موازين القوى وقواعد اللعبة السياسية فى مصر لم تتغير بالقدر الذى يسمح باستحواذ النشطاء الأكثر اتصالا بالشارع على عدد كاف من المقاعد البرلمانية، فإن الصورة تبدو مختلفة على المستوى المحلى، إذ أدى حل المجالس المحلية، ونشاط اللجان الشعبية، وفراغ الساحة من نخبة مبارك، وتزايد الأنشطة التوعوية والتنموية إلى تغيير خريطة موازين القوى، بما يسمح بتواجد أكثر تأثيرا لقوى جديدة لديها رغبة حقيقية فى خدمة الجماهير، واكتساب الخبرات السياسية والثقة الجماهيرية اللازمة للمساهمة بعد ذلك فى إعادة بناء الوطن.
أتصور أن معركة تحرير الوطن بالثورة لا تزال طويلة، وأن الانتخابات البرلمانية المقبلة على أهميتها ليست نهاية المطاف، بل هى إشارة انطلاق للمرحلة الانتقالية التى قد تمتد سنوات بعد انتقال الحكم للمدنيين حتى تستقر الأوضاع على نحو يحقق مصالح المواطن والوطن، ولذلك فإننى أتصور أن القوى الوطنية والأفراد والمجموعات الراغبة فى الإصلاح ينبغى عليها أن تبادر بالمشاركة فى السياسة المحلية، التى سيخرج منها من دون شك قادة المستقبل فى مصر.
●●●
لا يحتاج الأمر لكثير كلام: محاكمة المدنيين عسكريا يمثل اعتداء على سيادة القانون وعسكرة للدولة، ومباشرة النيابة العسكرية التحقيقات فى أحداث ماسبيرو يجعلها خصما وحكما فى الوقت ذاته، وموقف علاء عبدالفتاح الرافض للخضوع للتحقيق من الخصم هو موقف أخلاقى نبيل، واعتقاله وآلاف المدنيين وإحالتهم للمحاكمة العكسرية غير مقبول، وهو فى حالة علاء تحديدا يعبر عن موقف حكام مصر المؤقتين من الثورة، وفى غيرها يعبر عن موقفهم من مدنية الدولة التى يطالب البعض بأن يكونوا حماتها.