قبل نحو ثلاثة أسابيع وقف تركى محمود البوسعيدى أمام الرئيس السورى بشار الأسد، مقدما أوراق اعتماده سفيرا لسلطنة عمان فى سوريا. البوسعيدى هو أول سفير خليجى يعين فى دمشق بعد طرد سوريا من الجامعة العربية فى نوفمبر 2011. قبل نحو عامين خرقت دولة اتحاد الإمارات الحصار الدبلوماسى على سوريا عندما أعادت فتح سفارتها هناك، وانضمت إليها البحرين أيضا.
بدا حينها أن سوريا على وشك العودة إلى الحضن العربى ــ عندما طُرح احتمال أن تعيد الجامعة العربية النظر فى عضوية سوريا فيها، وصرح الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى بأنه يؤيد الجيش السورى الوطنى، وهو مستعد لإرسال شحنات سلاح لدعم الحرب التى يخوضها النظام ضد المتمردين. أخيرا أكد الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط أن عودة سوريا إلى الجامعة العربية «غير مطروحة على الطاولة»، لكن الظروف قد تتغير لأن سوريا تحظى حاليا باهتمام متزايد، فى الأساس بسبب تحولها إلى مركز خصومات سياسية لعدة دول. روسيا مهتمة كثيرا بحصول نظام الأسد على شرعية عربية، كى تستطيع سوريا أيضا أن تكون مجددا عضوا فى المجتمع الدولى والحصول على هبات ومساعدات من مؤسسات مالية دولية ضرورية لإعادة إعمارها.
تتطابق المصلحة الروسية مع مصلحة السعودية والإمارات اللتين تريدان لجم نفوذ إيران، والأهم من ذلك وضع جدار دفاعى فى وجه التدخل التركى فى سوريا خصوصا وفى الشرق الأوسط عموما. استولت تركيا على مناطق فى الأراضى السورية وتخوض هناك حربا ضد المتمردين الأكراد، وهى تعتبر الأسد زعيما غير شرعى. تشعر تركيا بالقلق، فى الأساس من أن حصول سوريا على شرعية عربية، بالإضافة إلى دعم روسى، سيفرضان عليها الخروج منها.
تستطيع تركيا الاعتماد على دعم واشنطن. وعلى الرغم من أن واشنطن هى حليفة استراتيجية للأكراد، إلا أنها لم تحرك إصبعا لإجبار تركيا على الخروج من المحافظات الكردية التى احتلتها. تدخُل الولايات المتحدة الأساسى فى سوريا يتلخص فى فرض عقوبات شديدة القسوة على النظام. على سبيل المثال العقوبات التى فُرضت فى يونيو، ضمن «قانون قيصر»، الذى يفرض عقوبات على أى شركة أو دولة أو شخص يقيم علاقات من أى نوع كان مع نظام الأسد، باستثناء النشاطات الإنسانية.
لكن تبين أن البيت الأبيض نفسه يقيم علاقات مع سوريا. بالاستناد إلى معلقين فى «الوول ستريت جورنال» أرسل ترامب فى مارس رسالة إلى الأسد، اقترح فيها إجراء مفاوضات لإطلاق سراح مواطنين أمريكيين، هما أوستين تايس، صحافى مستقل اختفى فى سوريا فى سنة 2012، ومجيد كملماز الذى اعتُقل على حاجز سورى فى سنة 2017، ومنذ ذلك الحين مسجون فى سوريا. قبل بضعة أسابيع أرسل ترامب إلى دمشق كبير مستشاريه لشئون محاربة الإرهاب كاش باتل لإجراء محادثات لإعادتهما، لكن يبدو أن العملية لم تثمر نتائج. فقد اشترط الأسد لإطلاق سراحهما خروج القوات الأمريكية من سوريا ورفع العقوبات المفروضة عليها.
لكن حدوث المفاوضات بحد ذاته يثير تكهنات وتقديرات بشأن نيات ترامب فيما يتعلق بسوريا. «هل سوريا فى الطريق إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل فى مقابل رفع العقوبات عنها؟» تساءل معلقون عرب، و«هل المفاوضات على إطلاق المعتقلين الأمريكيين هو الطلقة الأولى على طريق صفقة كبيرة يخطط لها ترامب». وازدادت التكهنات مع تعيين السفير العمانى فى دمشق، الذى من المحتمل أنه جرى بمباركة سعودية، وكاستمرار لعملية توثيق العلاقات بين الإمارات والأسد، بحسب معلقين سوريين.
الأسد نفسه سارع إلى سكب مياه باردة على فرص التطبيع مع إسرائيل. فقد أوضح فى مقابلة أجراها معه التلفزيون الروسى فى بداية أكتوبر أن «التطبيع سيكون فقط فى مقابل المناطق التى احتلتها إسرائيل من سوريا»، وتابع: «فى هذا الوقت سوريا لا تجرى مفاوضات مع إسرائيل»، كان هذا توضيحا قصيرا بصورة خاصة؛ حيث إن الأسد لم يتطرق قط إلى المشكلة الفلسطينية، ولا إلى الشروط التى حددتها المبادرة العربية للسلام، التى دعت إسرائيل إلى الانسحاب من كل المناطق التى احتلتها، وليس فقط من هضبة الجولان، وبالمناسبة، الأسد أيضا لم يُدِن بصورة رسمية اتفاق التطبيع بين إسرائيل والإمارات، واكتفى ببيان انتقادى أصدره حزب البعث، ولم يُسمع أى تطرق رسمى إلى المفاوضات التى يجريها لبنان وإسرائيل على ترسيم الحدود البحرية بينهما.
ثمة شك فى أن هذه الإشارات والتلميحات ستثمر فى وقت قريب اتصالات مباشرة أو غير رسمية بين إسرائيل وسوريا.. حدوث انسحاب إسرائيلى من هضبة الجولان ليس واردا فى الحسبان. وخصوصا ليس بعد أن اعترف ترامب نفسه بسيادة إسرائيل عليها، وإزاء الإجماع الإسرائيلى الكاسح الذى لا يترك مجالا لمفاوضات على انسحاب.
من غير المتوقع تتغير البنية التحتية التى رسمها ترامب فى سوريا؛ لن تطالب الولايات المتحدة بانسحاب إسرائيلى، أول إلغاء العقوبات المفروضة عليها. نقطة التحول من الممكن أن تحدث هذه المرة من الدول العربية تحديدا إذا قررت استئناف علاقاتها مع سوريا.