أصيب الرأى العام فى العالم العربى بسلسلة من خيبات الأمل ربما كانت السبب غير المباشر وراء انفجار حركات التغيير التى تعرف اليوم بـ«الربيع العربى».
كانت هناك أولا خيبة أمل من الأنظمة السياسية العربية. فلا هى أنجزت الهدف القومى بتحرير فلسطين والمقدسات الإسلامية والمسيحية من الاحتلال الإسرائيلى، ولا هى حققت الحد الأدنى من التنمية الاقتصادية والرفاه الاجتماعى. كل ما حققته هذه الأنظمة هو الاستمرار، أى استمرار الأنظمة. فالهدف القومى تراجع فى سلم أولوياتها إلى درجة مكنت إسرائيل من التوسع الاحتلالى والاستيطانى وحتى من التأثير على عملية اتخاذ القرار العربى. أما الهدف الاقتصادى ــ الاجتماعى فتراجع أمام الفساد المستشرى.
وكانت هناك خيبة أمل من التسويات السياسية مع إسرائيل. فاتفاق كامب ديفيد 1979 ومن بعده معاهدة السلام، عزلت مصر عن الصراع العربى ــ الإسرائيلى وأطلقت يد إسرائيل العدوانية فى لبنان (حرب 2006) وغزة (حرب 2008). كما أطلقت يدها فى القدس تهويدا واستيطانا. ولم يغير من هذا الواقع لا معاهدة السلام الأردنية مع إسرائيل (وادى عربة) ولا اتفاق السلطة الفلسطينية معها (أوسلو).
وبذلك تراكمت خيبات الأمل من سياسة المقاومة ومن سياسة المهادنة، على حد سواء. وأصبح الرأى العام العربى يدرك الحقيقة المؤلمة وهى أن التنازل أمام إسرائيل لم يؤد إلا الى المزيد من التنازل. وأن من مظاهر ذلك استمرار الأنظمة السياسية التى تقدم هذه التنازلات بحماية خارجية.
ومما زاد الطين بلة، أن هذه الأنظمة السياسية لم تتمكن من تغطية عجزها أو فشلها أو تواطئها، فى تنفيذ مشاريع للتنمية الاجتماعية. فتراجعت مستويات المعيشة والدخل الوطنى، وتراجع مستوى التعليم وازدادت معدلات الهجرة إلى دول العالم.. ومعها ازدادت الإسلاموفوبيا حدة، الأمر الذى كان بمثابة صب الزيت على نار خيبات الأمل.
لعبت الوعود الدولية وتحديدا الأمريكية فى تحقيق تسوية عادلة ومشرفة للقضية الفلسطينية دورا أساسيا فى مضاعفة الشعور بخيبة الأمل. ولعل من أبرز هذه الوعود ما أعلنه الرئيس الأميركى باراك أوباما أمام جامعة القاهرة قبل عامين، ثم تصرفه بعكس تلك الوعود تحت ضغط اللوبى الصهيونى الأمريكى. فقد زرع آمالا كبيرة، وكان نكث هذه الوعود قد أدى إلى خيبات أمل كبيرة أيضا.
ومن هذه الوعود كذلك مبادرة اللجنة الدولية الرباعية (الولايات المتحدة والاتحاد الروسى والاتحاد الأوروبى والأمم المتحدة) وهى مبادرة عكست آمالا بإمكانية قيام تفاهم دولى شامل على قاعدة قرارى مجلس الأمن الدولى 242 و338، ولكن فشل اللجنة الرباعية كان فشلا مدويا. وما كان للجنة أن تنجح بعد أن استجابت لطلب الرئيس الأمريكى السابق جورج بوش بتعيين حليفه فى الحرب على العراق رئيس الحكومة البريطانية الأسبق تونى بلير أمينا عاما لها. فقد كان تعيينه سببا إضافيا للفشل، وبالتالى لانفجار خيبات الأمل!
●●●
فقدا تلاقت خيبات الأمل من الأنظمة العربية، مع خيبات الأمل من النكث بالوعود الأمريكية ومن العجز الأوروبى، ومن شل يد الأمم المتحدة، لتضخ فى مجموعها كمّا هائلا من الغضب الذى فجر الأوضاع فى المجتمعات العربية.
ثم جاء الاحتلال الأمريكى للعراق وما أسفر عنه من تمزيق لوحدته الوطنية، ومن تعريض نسيج التنوع الدينى والمذهبى والعنصرى فى العالم العربى إلى التمزق أيضا. وتزامن ذلك مع اتساع رقعة النفوذ الإيرانى من جهة، والنفوذ التركى من جهة ثانية، كما تزامن مع اتساع رقعة الترهل العربى وفشل الأنظمة السياسية فى التعامل مع كل هذه التطورات بما يحفظ الكرامة العربية بعد أن عجزت عن حفظ حقوقها المغتصبة والمصادرة.
لقد كان طبيعيا أن تفجر هذه السلسلة من خيبات الأمل رد الفعل الذى يتمثل الآن فى «الربيع العربى». وما كانت عربة خضار البوعزيزى فى تونس، سوى عود الثقاب الذى أشعل حقلا شديد اليباس.
غير أن حركة رد الفعل لا تقدم عادة ما هو مطلوب، أو ما هو متوقع من حركة الفعل. وهو ما يفسر، ربما، ما يواجهه الربيع العربى من تعثر فى مصر، ومن نزيف فى سوريا، ومن صراع فى اليمن. وهو ما يفسر أيضا ما واجهته ليبيا من تدخل عسكرى أطلسى. بل إنه ربما يفسر كذلك المبادرات «الذكية» التى قامت بها على عجل الممالك الثلاث فى المغرب والأردن وعمان، لتحقيق اصلاحات دستورية امتصت قدرا كبيرا من خيبات الأمل المحلية.
لقد كشف تقرير الأمم المتحدة عن التنمية البشرية فى العالم العربى وقائع مخجلة عن مدى التردى فى مستوى المعيشة والتعليم والتنمية. ولو أن هناك تقريرا عن الحقوق السياسية لكشف عن وقائع أشد إيلاما عن مدى انتهاك الكرامة الانسانية فى الداخل، وعن مدى انتهاك الحقوق الوطنية فى الخارج. ولكن عدم وجود تقارير تبين هذه الوقائع المؤلمة لا يعنى أنها غير موجودة. وهو ما يفسر ردود الفعل التى أشعلت حركات التغيير.
●●●
لا شك فى أن هذه الحركات تحتاج إلى قليل من الوقت والى كثير من الحكمة لتنتقل من حالة رد الفعل الى حالة الفعل. وخلال عملية الانتقال هذه، لا بد من أن تمر فى فترات صعبة ومعقدة على النحو الذى تمرّ به الأوضاع الحالية فى مصر مثلا. كذلك لا بد من أن تتعرض إلى محاولات للالتفاف عليها من قبل قوى محلية طامحة، ومن محاولات لاستغلالها ولإخراجها عن مسارها الإصلاحى الوطنى النظيف من قبل قوى خارجية جامحة.
وفى كل الحالات فإن المهم ألا تتحول هى ذاتها، إلى خيبة أمل جديدة، وإذا حدث ذلك لا سمح الله، فإنها تؤسس لانطلاق حركات تغيير جديدة تقوم على أنقاضها.