أعترف بفضل 2011 وسوف أبقى معترفا بهذا الفضل. أتاح لنا 2011 فرصا لم يتحها لنا أى عام مر علينا. تعرفنا من خلال هذه الفرص على أشياء وأشخاص وقوى وطبقات كنا نراها ونتعامل معها فى سنوات خلت وتبين لنا فى 2011 أننا لم نكن نعرفها. يكفى أن ينظر الواحد منا إلى قائمة من يتواصل معهم بالبريد العادى والالكترونى وبالهواتف والفيس بوك والتويتر وغيرهما ليدرك حجم ما أضيف إلى القائمة من حيث العدد والنوعية والفئة العمرية. وإن نسينا فلن ننسى أن 2011 دربنا على اكتساب مهارات لم تكن لدينا، بعضها فاتنا قطارها وبعضها تكبرنا عليه وبعضها فضلنا على اكتسابه والانشغال به راحتنا النفسية أو أمننا الاقتصادى. وأظن أن هذا الشعب سوف يذكر دائما أنه تدرب فى 2012، برضاه وليس رغم أنفه، على مهارة كان الظن أنها تستحيل عليه وهى صنع المستقبل وقراءته.
●●●
كان 2011 عام تجارب عظمى، وكان ساحة حشد فيها التاريخ، وبكثافة شديدة، أقوى وأكفأ أداة من أدوات التغيير والتجديد، وهى الثورة، حشدها، بل حشد عددا منها وبتزامن مدهش فى منطقة اشتهرت بقدرتها على التأثير سواء بأفعالها أو لا أفعالها فى غيرها من مناطق العالم. وبقدر ما كانت رغبة التاريخ فى التغيير عارمة، كذلك كانت رغبة الملايين من شعوب المنطقة، ورغبة قوى ودول فى الغرب وإن بشروط لم تحد عنها وحدود حاولت فرضها.
كانت ولا تزال الرغبة فى التغيير عارمة وكان ولا يزال رفض التغيير بين القوى المناهضة للتغيير وللتاريخ معا، قويا وعنيدا. ومع ذلك كان واضحا أن قوى التغيير لن تتفق فيما بينها بسبب تضارب مصالحها الأخرى. هذه القوى لم تكن منظمة ولم تجمعها مؤسسة ولم تأتلف قبلا أو بعدا. منها قوى أرادته تغييرا يقلب صفحة فى التاريخ ويفتح صفحة جديدة تماما، وقوى أرادته تغييرا يضعف نفوذ مؤسسات القمع ويزيح طبقة مالية وتجارية حكمت لعقود وإحلال طبقة مالية وتجارية جديدة محلها. هذا النوع من الإحلال الذى يرغب فيه الإسلاميون يختلف عن الإحلال الذى نفذته بالفعل حكومة الثورة المصرية فى آواخر عقد الخمسينيات ومعظم عقد الستينيات. وقتها اختيرت البيروقراطية لتحل محل طبقة ملاك الأراضى والعقارات وكبار الصناعيين والتجاريين. المؤكد هذه المرة أن الإسلاميين لن يثقوا فى البيروقراطية المصرية، على الأقل لسنوات عشر أو عشرين، ليحلوا محل طبقة انفتاح السادات ومبارك، فضلا عن أن لديهم طبقتهم المالية التجارية التى مولت تنظيماتهم السياسية والاجتماعية لعقود طويلة، وجاء وقت استرداد ما أنفقته هذه الطبقة وتعميق نفوذها والتوسع فى تكوين ثروات جديدة.
كانت أمريكا ودول أوروبية بين القوى التى لم تخف رغبتها فى تغيير كثير من الأوضاع القائمة فى دول الشرق الأوسط. لم تخدع هذه الدول، أو أجهزتها المتخصصة أحدا فى العالم العربى، فقد عملت فى العلن، وفى السر أيضا، على تشجيع اتجاهات التغيير أملا فى أن يأتى التغيير بنظم سياسية تفرج عن طاقات عديدة محبوسة يمكنها أن تسهم فى توسيع حجم السوق الاستهلاكية العربية الضرورية لاستهلاك منتجات الغرب، وبخاصة منتجاته الفكرية والسياسية. كذلك كان أملها كبيرا فى أن يؤدى التغيير إلى السماح لقوى سياسية واجتماعية أن تنشط وتقوى وتتأهل لتولى السلطة وتنأى بنفسها عن ممارسة أو تشجيع أنشطة تخريبية أو إرهابية يقوم بها ناشطون متطرفون يسعون لفرض حكم الدين بالقوة المسلحة.
●●●
كان 2011 كاشفا بقدر ما كان فاعلا. بفضله ندخل 2012 ولدينا معرفة أوسع بخريطة القوى السياسية فى مصر. لن نخمن بعد اليوم فى قوة الإسلاميين ومدى تغلغلهم فى المجتمع المصرى. كانوا «فزاعة» وأصبحوا حقيقة. والحقيقة لا تخيف أو ترهب بل على العكس يمكن أن تكون دافعا ليرفع الآخرون مستوى أدائهم ويطورون فكرهم ويحدثون أدواتهم وأساليبهم.
أثق، على سبيل المثال، فى أن قوى التغيير فى مصر، وأغلبها سوف يستمر يعكس طبيعة الأجيال الشابة لعقود طويلة قادمة، لن تتعامل مع المجلس العسكرى أو من يمثل المؤسسة العسكرية المصرية على نفس الأسس التى تعاملت بها الأجيال السابقة من المدنيين مع العسكريين. تغيرت أكثر الأسس، أحدها كان الاقتناع المتبادل بأن العسكريين قوة تغيير تتصدر قوى التقدم فى المجتمع. انحسر هذا الاقتناع فى معظم دول العالم، وبخاصة فى مصر المعاصرة، منذ أن تأكدت جموع «التغييريين» من أن المجلس العسكرى اختار أن يقود معسكر «الاستقراريين» فى مواجهة أنصار التغيير. كثيرون يقارنون بين سلوكيات النخبة فى جيش مصر إبان المرحلة الليبرالية وسلوكيات النخبة الراهنة وبوجه خاص فى النظرة إلى مفاهيم الحرية والديمقراطية والتغيير والنهضة والتحديث، وكلها كانت من الانشغالات اليومية لضباط القوات المسلحة فى سنوات الأربعينيات. وقد تبدو المقارنة غير عادلة، ففى منتصف القرن الماضى كانت مصر وغيرها من دول الجنوب تعيش مرحلة سعى للاستقلال بينما نعيش الآن مرحلة يبدو فيها الحديث عن الاستقلال الوطنى والسيادة ردة عن العولمة ومبادئ اقتصاد السوق ونظريات حق التدخل لأسباب إنسانية، وعند البعض ردة عن التزامات مصر الدولية واتفاقاتها مع إسرائيل والولايات المتحدة.
●●●
أستطيع، مثل كثيرين غيرى، أن أفهم سبب اختيار النخبة العسكرية الراهنة الدفاع عن سياسات ومؤسسات الوضع القائم والإصرار على أن يجرى التغيير فى نطاق محدود. أتصور أن وراء هذا الاختيار الاعتقاد، بين أسباب أخرى، بأن الانتقال بوتيرة بطيئة يضمن حماية المؤسسة العسكرية المصرية من تقلبات التغيير الثورى وتعقيدات المراحل الانتقالية وتكلفة الانشغال بالعمل السياسى ابتداء من فك الاشتباك بين القوى الاجتماعية وانتهاء بعملية بناء دولة حديثة.
يقول كارل جيبسون، المخرج الأمريكى المعروف والناشط فى حركة احتلال معاقل الطبقة المالية فى أمريكا، إن الاحتكارات الإعلامية الكبيرة فى دول الغرب نجحت فى تشويه سمعة اعتصامات الاحتجاج على فساد الطبقة المالية بما إشاعته عنها من أن شعاراتها تافهة المضمون وأن المشاركين فيها من جماعات سيئة السيرة وصانعة فوضى ومتسببة فى قذارة ومهددة للصحة وصنيعة مؤامرة أجنبية.
ما يقوله جيبسون لا يختلف عما يقوله أنصار التغيير فى مصر، وفى غيرها من المجتمعات الثائرة فى العالم العربى، فقد اشترك بعض أجهزة الإعلام مع قوى إقليمية معادية للتغيير فى التشويه المتعمد لأهداف الثورات العربية ومحاولة حرفها عن الطريق ورفع تكلفة تضحياتها المادية البشرية وتحميلها سلبيات اقتصادية واجتماعية كانت موجودة، بل وكان بعضها بين دوافع الثورة.
●●●
أسمع من عدد لا بأس به من المعارف أن هناك من يعتقد أن الاحتمال وارد أن يشهد 2012 أعمالا عنيفة تهدف إلى العودة بمصر تحديدا، وليس بسوريا وليبيا وتونس، إلى حال استقرار 2010. وأستطيع أن أفهم مبررات هذا الاعتقاد وأغلبها يرتبط بتصرفات المجلس العسكرى وقوى الأمن الداخلى وقوى مالية تمول الفوضى الدينية والسلوك السياسى لبعض الدول العربية. ومع ذلك أصر على اقتناعى بأنه مخطئ من يعتقد أن مصير 2011 سيكون كمصير 1968 ومصير 1977 ودليلى هو 2012.