عشت صغيرا بين كبار فى السن. ارتاحوا لى وارتحت لهم. تكونت فى ذهنى عنهم صورة لم تزل حية. أذكر الهدوء يحيط بهم. يهمسون فبالكاد تسمعهم. يطلبون الحاجة فى خجل وتردد خشية إزعاج من يعيش فى دوائرهم. أذكرهم يفضلون قضاء وقتهم معنا وليس مع الأكبر منا. أذكرهم ودائما فى تأمل. ينظرون طويلا نحو الشيء أو الشخص وكأنهم لا يرونه. هم يرون ويراقبون ويفهمون ولكن فى صمت. يحبون بصفاء ونقاء ولكن بأحاسيس قوية. يكرهون. أذكرهم يكرهون الجوع؛ لأن الجوع يجبرهم أن يطلبوا وهم يكرهون الطلب ففى الطلب ضعف واعتماد. كانت لى بين هؤلاء من كبار السن جدة تفضل مجالسة حيواناتنا الأليفة، وهذه كانت تأتى إلى قربها خصوصا عند هبوط الليل وعندما نخلى لها نحن الأطفال المكان. أذكر أننى لم أسمع كلبا ينبح فى حضرتها، ولم أسمعها ذات يوم تنهر كلبا.
مرت السنون على أيام كنت فيها طفلا. صرت واحدا من كبار السن وانتقلت لأعيش فى ضاحية سمتها الهدوء. وبالفعل عشت شهورا فى هدوء كهدوء الجنة على ما أتخيلها ستكون. فجأة وقع التغيير. كدت أكره الجنة بسببها. ولدت وشقيقها قبل أيام من انتقالى إلى هناك. مرت أيام أخرى قضيناها نتأقلم فى بيئة جديدة. هى وشقيقها فى أحضان الأم يتناوبان على ثديها. وأنا الذى قضى معظم سنين عمره يحلم بحديقة يلحق بها بيت للسكن فى موقع هادئ خارج المدينة.
• • •
مرتان أنعمت الأيام بفرصة ليتحقق الحلم. مرة قبل سنين عديدة عندما نقلت للعمل بمدينة ليست كالمدن. عماراتها بعدد أصابع اليد الواحدة وكلها تقع فى مربع محدود الأضلاع والزوايا. هذه العمارات، إن لم أخطئ، شاغرة بعض ساعات النهار وطول الليل فشاغلوها موظفون وحكام. ينتهى عملهم وقت الظهيرة فيعودون إلى بيوتهم وحدائقها على أطراف المدينة وعند سفوح الجبل حيث الهدوء والنقاء والاستمتاع بما تبقى من ساعات النهار وبما يفيض من ساعات الليل.
تحقق الحلم، حلم السكن فى هدوء وبيت بحديقة، تحقق لأيام معدودة. تدخلت السياسة وكيد الرجال وشغف النساء فتقرر نقلى إلى مدينة أخرى هى كالمدن لا حدائق تابعة لبيوتها، فالبيوت عمارات وناطحات سحاب. سكنت فى واحد منها وفيه زارنى أصهار وأصحاب جدد، أحدهم أهدانا كلبا صغيرا استجابة لدموع سامر ونسرين اللذين لم يغفرا لمن كان السبب فى ألا يتحقق حلم المسكن بحديقة تسعهما مع كلب يلهوان به. كان الكلب الهدية السبب الأول والأخير فى إصرارنا، أب وأم وابن وابنة، ألا نأوى مرة أخرى كلبا فى بيتنا. كجرو كان فى براءته شريرا وعندما كبر شهورا كبر معه عناده وتعددت ابتكاراته. لم يتبق فى البيت فى عهده ستارة على نافذة وغطاء على مقعد لم يتمزقا، وبفضله فاحت فى كل الأنحاء روائح لم تكن لتغيب عن أنوفنا وأنوف الزائرين. غادرنا ونحن غير آسفين وبقيت ذكراه حية ورادعا ضد أى محاولة لاستضافة حيوان مهما خف ظله أو عظم سحره أو فاحت براءته وجاذبيته.
• • •
كنت أقول فى مطلع هذه الحكاية إننى كدت أكره الجنة بسببها. أما الجنة فهى التى كانت حلما وكاد يتحقق خلال الأيام التى قضيتها مع أسرتى الصغيرة فى سنتياجو عاصمة الشيلى. للحق والدقة عاد الحلم يتحقق لأيام معدودة ولكن كافية لتبقينى متعلقا بأمل تحقيقه كاملا فى فرصة أخرى. حانت الفرصة بعد أربعين عاما أو أكثر. ها أنا أعيش فى حديقة لها بيت. أنعم بمنظر لوحة رسمتها ألوان الزهور وطير الهدهد وغراميات الحمام وألحان كونشرتو تعزفه العصافير، لكل عصرية لحن يناسبها.
عندما نزلت فى هذا الحى كانت تعيش أمامى فى الحديقة المقابلة كلبة كبيرة فى العمر ترضع طفليها. أيام قليلة واختفت الأم ومعها أحد الجروين، عرفت فيما بعد أن الجرو الذكر هو الذى رحل مع الأم إلى حديقة فى بيت آخر بعيد عن بيوتنا. بقيت الأنثى الصغيرة وحيدة تبكى الليل والنهار. بكاؤها ليس نباحا ولا صراخا، نوع من الأنين ولكن متعدد النغمات الحزينة. تعاطفت وعطفت ولم أفلح فى تخفيف الحزن واستبعاد الوحشة. كم من ليال فكرت اتسلل إلى حديقتها أحملها وأعود بها إلى فراشى لتنام فى حضنى فيهدأ أنينها وتخف لوعتها.
كبر الجرو وصار كلبة رائعة الجسد وهائلة الصوت. تغير الأنين المكتوم إلى نباح غاضب لا يتوقف أو يهدأ. يصحبنى الصوت فى الليل بطوله والنهار أيضا. لا الكلبة نامت ساعة ولا أنا. تعاطفت فى البداية فالكلبة فقدت جروها. الكلبة حزينة وأهلها قلوبهم غليظة. غضبى انصب على الأهل الذين يلقون لها بالأكل ويغيبون بقية اليوم وكل الليل. ومع الأيام امتد غضبى ليشمل المسكينة الحزينة. نباحها غطى على زقزقة العصافير أو لعلها، وأقصد العصافير، هربت من حديقة النباح لتسكن أشجارا بعيدة. تأكدت من أن الكلبة صارت معروفة بين كلاب الحى منذ أن راحت الكلاب تتبادل معها دورات النباح. كدت مع الوقت أميز بين النباح الغاضب والحزين والمتعاطف والداعم والمهيج. أكثر من مرة وجدت نفسى أتخيل وكأن النباح صار نفيرا يعلن الثورة على الظلم والتجاهل والقمع والحبس المنفرد. أكثر من مرة صرت أنا نفسى طرفا من أطراف الظلم حين كنت ألجأ إلى سلطة الحى أطالبها بحمايتى من كلبة مضطهدة لا يتوقف نباحها.
• • •
بين كلاب الحى كلب يأتى كل يوم مربوطا بحزام فاخر من الجلد إلى يد امرأة طويلة ورشيقة القوام وناعمة الإحساس. تمشى بعجلة والكلب أمامها بخطوات كما لو كان هو القائد. أعرف عن قدومه عندما أسمع نباح كلبتنا فى الحديقة المقابلة لحديقتى، نباح ليس كنباحها. نباح كلبة منفعلة بالإثارة والشوق، وإذا لم أخطئ، فبالحب أيضا. ومن على البعد أرى كلبا يقود صاحبته يأتى ركضا ونباحه يصل معلنا فرحة كبيرة قادمة وصاحبته مشدودة بالحزام الجلدى تجرى خلفه حتى يتوقف على سلالم الدرج الصاعد إلى الحديقة التى تعيش فيها كلبتنا، بطلة حكايتنا. كنت شاهدا لا يمل مشاهدة لقاء حب حقيقى بين كلبة وكلب ولكن عن بعد. أشاهدهما وقد وقف كل منهما على ساقيه وأنفه ملتصقة بالباب الحديد. أشاهد صاحبة الكلب الزائر تحاول بقوة رجال استعادة سيطرتها على كلب صار عاشقا. تنجح بعد جهد فتسحبه بعيدا فيعود نباح الكلبة المحبوسة، يعود من نبرة الشوق إلى رؤية الحبيب القادم من بعيد وفرحة اللقاء إلى صراخ الغضب والحرمان. تركض فى حديقتها بعنف لا يخفى والكلب العاشق يرفض أن يتحرك ليقود. رأيته فى كل مرة بعد الاحباط يختار الانقياد تعبيرا عن عدم رضاء وخيبة أمل. مسكين الكلب ومسكينة أكثر منه الكلبة.
• • •
مرة أخرى وفجأة تختفى الكلبة ويظهر فى الحديقة ثلاثة كلاب حديثة الولادة وصاحبة بيت جديدة. اختفت الكلبة الكبيرة بعد أن كانت العلاقات بيننا تبدلت من غضب متبادل إلى شيء آخر. أذكر كيف كانت فى بداية علاقتنا تنبح بغضب وغير مودة فى كل مرة ترانى أو تشم رائحتى من على البعد قادما إلى حديقتى، تغيرت صارت تنتظر عودتى من الخارج أو خروجى من حديقتى فتركض بسرعة غير مألوفة فى اتجاهات مختلفة معبرة عن سعادة. تستقبلنى وتودعنى بنباح لم اعتده. هل أسميه نباحا من القلب. غريب أمرى حتى أنا صرت اقترب من الباب الحديد وأفتح كفى فتأتى إليه متمسحة برأسها وذيلها طائر من الفرحة. نسيت أن أقول إن نباح الليل توقف تماما خلال العام الأخير، أعتقد أنه توقف بفضل مساعى وإرشادات معلمة أجنبية كنت أسمعها تلقن الكلبة دروسا فى السلوك. أو لعله توقف نتيجة اطمئنانها إلى وجودى تعوض به قسوة أهلها وغيابهم. حدث كل هذا وغيره كثير قبل أن تختفى ويظهر محلها ثلاث كلبات صغار، أو لعلها ثلاثة كلاب صغار.
• • •
أظن أننى تأثرت كثيرا وأتأثر فى كل مرة يأتى الكلب العاشق مع صاحبته الهيفاء الأنيقة. يأتى لا يسبقه نباح من أى نوع. يفك نفسه عن قيده الجلدى ويتجه فى هدوء ناحية الباب الحديد. هناك يقف لحظات كأنما يتذكر. ثم يعود إلى الطريق، أقصد إلى الممر الضيق الذى يفصل بين الحديقتين، يعود حزينا منكس الرأس ويمشى هادئا لا يسعى ليقود وإنما مستسلم لقيادة صاحبته فى نعومة ووداعة لا تتناسب أيتهما وحجمه الهائل.
أنتظر زيارته ظهر كل يوم وأفرح للقائه متفهما اشتياقه لمحبوبته التى اختفت فجأة من حياة كل منا.