الدولة الحديثة، أو الدولة التى يسعى بعض المخلصين فيها لتحديثها، تحتاج إلى صحافة حديثة لا تعتمد على الشائعات وإنما على حقائق. ولا يصلح لصنع صحافة حديثة، كما أنه لا يصلح لبناء دولة حديثة، سوى عقول مؤمنة بضرورة التغيير والإصلاح.
المؤكد أن الناس فى دول الغرب، وبدرجة أقل عندنا، أن الناس تتحول تدريجيا من الصحافة المطبوعة إلى الصحافة الرقمية. كان الأمل لدى عديد من الناشرين الكبار فى أمريكا بخاصة أن الإعلانات ستكون الكنز المفقود الذى ستعثر عليه مهنة الصحافة عندما تتحول إلى المرحلة الرقمية. وكان ميردوخ صاحب العدد الكبير من الصحف والدوريات والقنوات الفضائية فى الغرب وهو القادم إلينا هذه الأيام فى صور متعددة، أول من حذر من أنه سوف يبنى أسوارا حول إمبراطوريته الإعلامية تمنع عابرى السبيل والقراء غير الميسورين من الدخول إليها ولن يدخلها إلا من يدفع. كان ميردوخ أول من اتهم جوجل أنها تسرق الصحف التى يملكها، فهى تنتقى خبرا أو عمودا أو فكرة فى مقال وتصنع لها ومنها قصة وتحصل على عائدها منفردة وترفض أن تتقاسم مع الصحف صاحبة الحق الفكرى.
فى مرحلة أخرى خرج مسئول كبير فى شركة سبرنجر صاحبة صحف ألمانية عديدة أهمها جريدة بيلد Bild مدافعا عن جوجل لأنها تملك الكفاءة العالية اللازمة لتسعير المادة الصحفية الرقمية، وهى كفاءة لا تتوفر للناشر الورقى، وتقول جوجل نفسها أنها لا تسرق بل على العكس تساعد الصحف الورقية ماليا حين تشجع القارئ الرقمى على العودة إلى مصدر الخبر أو الفكرة أو المقال فى الصحيفة الورقية ليستزيد، فيفيد ويستفيد.
يدافع بعض المسئولين فى صحف كبرى عن انشغالهم بالبحث عن مصادر جديدة للمال، وهو اتهام لا ينكرونه، يسألون «لماذا ينكرون علينا انشغالنا بالمال إذا كان القراء لا يكفون عن طلب خبر جديد أو مقال لكاتب كبير أو تفاصيل وعمل استقصائى عن حادث خطير. قراء آخرون حريصون على متابعة فضائح السياسيين وقراءة أخبار عن فسادهم وقصص انحرافاتهم وروايات صعودهم وهبوطهم، وكلها تكليفات مكلفة للغاية إن روعى الصدق والأمانة الصحفية».
هؤلاء القراء لماذا لا يدفعون ثمن استجابتنا لطلباتهم. لذلك اتجه أصحاب الصحف إلى إصدار «طبعات رقمية» كل صباح تتضمن قائمة بأهم الموضوعات والأخبار والمقالات المنشورة فى الطبعة الورقية وتسجل أمام كل بند ثمنا يدفعه القارئ الذى يريد الاطلاع عليه، وتخضع الأسعار لاعتبارات منها حجم الطلب على الموضوع وأهميته وأولويته.
تعددت الاقتراحات لإنقاذ دور النشر الصحفية الكبرى من أزماتها المالية. وقد ساد اقتناع لفترة غير قصيرة بأن القارئ الذى لا يدفع مقابل ما يحصل عليه من خدمة رقمية يجب أن تحدد الصحيفة له صفحات معينة لقراءتها وتمنع عنه صفحات أخرى. أما القارئ المستعد للدفع فيعرض عليه أن ينضم لناد خاص تسمح له عضويته فيه الاستمتاع بامتيازات وخدمات غير متوفرة للقارئ الذى لا يدفع.
اقترح بعض الناشرين أن يسمح لهذا العضو بحضور مقابلة مهمة يجريها كاتب أو صحفى كبير فى الجريدة مع شخصية لها وزنها، ويمكنه أن يشارك ولكن بعد الاتفاق على عدد المداخلات ومدتها وقد تفرض عليه الصحيفة دفع مبلغ إضافى لا يدخل ضمن اشتراك العضوية.
اقترح آخرون عرض «عضوية ذهبية» على القارئ المهتم للغاية بالصحيفة والمادة المنشورة فيها. عضو متميز فى ناد متميز لقراء متميزين لصحيفة متميزة. وتسمح هذه العضوية للقارئ العضو بعقد «جلسة دردشة» بين الحين والآخر مع المسئول فى الصحيفة عن ركن المطبخ، أو مع المسئول عن ركن عروض الكتب.. ويستطيع العضو بترتيب مسبق الانضمام، كمراقب، إلى فريق هيئة التحرير ويحضر بعض اجتماعاتها.
وقد تحمست صحيفة الجارديان البريطانية لهذا الاقتراح وكتبت تقول «إن مستقبل الصحيفة مرتبط أوثق ارتباط بالقراء المشاركين والمهتمين وذوى العلاقة الخاصة معنا. إننا نريد من أعضاء نادى الجارديان أن يشعروا أنهم جزء حقيقى من المؤسسة، ومطلوب منا ومن القراء أن نعمل كل ما من شأنه تعزيز الولاء للصحيفة ومكافأة الموالين».
فى محاولة أخرى اقترحت إدارات صحف على كبار محرريها ومخبريها وكتاب المقالات فيها الالتزام بتدريب قراء للصحيفة وأصدقاء وطلاب الدراسات العليا فى أقسام الصحافة بالجامعات، من خلال صفوف دراسية منتظمة أو مجموعات محدودة تختص بموضوع معين أو من خلال لقاءات ثنائية، وأن يعود دخل هذه الدروس واللقاءات إلى ميزانية الصحيفة، ويمكنها بطبيعة الحال، إن شاءت، اقتسامها مع الصحفيين المكلفين بأداء هذه المهمة.
فى عدد صدر قبل شهور نشرت مجلة الصحافة التى تصدرها جامعة كولومبيا فى نيويورك أن عدد المتقدمين لدراسة الصحافة فى بداية العام الدراسى الحالى زاد بنسبة 38 بالمائة عن العام الفائت. وفى جامعة ميريلاند زاد العدد بنسبة 25%، وفى ستانفورد بنسبة 20%. يحدث هذا فى الوقت الذى تغلق فيه دوريات عديدة أبوابها وتتخلص صحف من العاملين بها، ويقدر مركز أبحاث بيو pew أن خمسة آلاف وظيفة صحفية فقدت فى عام 2008، وتقدر مؤسسة Paper cuts المتخصصة فى متابعة أنشطة الصحافة الرقمية، أن 13.000 صحفى استغنى عن خدماتهم فى عام 2009.
لسنا بعيدين تماما عن تطورات الصحافة فى الدول الغربية. ولسنا محصنين ضد أزماتها ومخاطرها المحتملة. خوفهم على مستقبلها فى الغرب نابع من خوف العاملين فيها من توحش احتكاراتها العظمى، أما خوفنا على مستقبلها فى مصر فنابع من خوف عام علينا وعليها وعلى غيرها.