لا ترتبط الجودة بالصناعة المصرية، ولم تتطور مصر صناعيا ولم تنافس منتجاتها دوليا إلا لعقدين من الزمان فقط خلال عهد محمد على باشا فى القرن التاسع عشر. وشهدت مصر خلال هذه الفترة نهضة صناعية حقيقية حيث أرسى محمد على قاعدة صناعية كبرى شملت صناعة السفن الحربية والمدنية، ومصانع أسلحة ومصانع تحضير المواد الكيماوية، إضافة إلى صناعة المنسوجات والسكر والزيوت ومضارب الأرز.
ومنذ انتهاء عصر محمد على اضمحلت الصناعة المصرية وأصبحت معها عبارة «صنع فى مصر» أو «Made in Egypt» دليلا على سوء المنتج، ناهيك عن رخص سعرها ورداءة سمعتها مقارنة بالمنتج الأجنبى.
ولهذه المقدمة علاقة بما سمعته من صديق الأسبوع الماضى فى وصفه لحال مصر السياسى منذ إسقاط الرئيس السابق حسنى مبارك وحتى الآن، إذ قال بكل صراحة إن الوضع داخل مصر، وما وصل إليه من تردى فى نظره يمكن ترجمته فى عبارة واحدة هى «صنع فى مصر».
وأظهرت ثورتنا النبيلة أفضل ما فى المصريين عندما شاهد العالم خلال 18 يوما من المظاهرات والاحتجاجات تلاحما نادرا، ورقيّا حضاريا، إلا أن الصورة الجميلة لم تستمر طويلا. نعم تشهد فترات التحول الديمقراطى بعد عقود طويلة من الحكم الديكتاتورى فوضى وعنف وعدم اتفاق مجتمعى لا على هوية الدولة ولا على الخطوات السياسية اللازمة. إلا أن أداء كل القوى السياسية المصرية يعد صادما بكل المعايير.
إسلاميو مصر ممثلين فى جماعة الإخوان المسلمين والجماعات السلفية تظهر يوميا مظاهر تعكس ضعف كفاءتهم السياسية وضعف قراءة المستقبل. وبلا شك تتمتع هذه القوى بقدرة تنظيمية ممتازة، ويظهر ذلك واضحا فى مواسم الانتخابات حيث القدرة الفائقة على حشد طوابير طويلة من المصوتين. إلا أنهم وعلى العكس من نظرائهم الأتراك لا يبدو أن لديهم مشروعا حقيقا لتطوير مصر شعبا وحكومة ومجتمعا. لم يعرض الإسلاميون حتى الآن خطط عمل يمكن تنفيذها للتغلب على قضايا مصيرية مثل الأمية والمرور، والرعاية الصحية والتعليم، واختاروا فكرة فضفاضة لا يمكن القياس عليها تعرف بمشروع النهضة. إسلاميو مصر أيضا ظهرت محليتهم الصادمة، ويبدو أن نطاق إبداعهم السياسى لا يتعدى توزيع بطاطين الشتاء وتوفير الدروس الخاصة المجانية، والعيادات الطبية الرخيصة. ورغم أهمية كل هذا ونبل المقاصد، إلا أن بناء دول حديثة فى مرحلة فوران ثورى تستدعى وجود رؤية للدولة ولطريقة دفعها بين مصاف دول العالم المتقدم.
أما يساريو مصر فهم يشكلون ظاهرة يصعب تحليلها. لقد قامت الثورة مطالبة بالعيش والعدالة الاجتماعية، وهذان المطلبان يمثلان العمود الفقرى للحركات اليسارية حول العالم. ولذلك يحصل اليسار على أصوات ملايين من عمال المصانع، إلا أن اليسار المصرى فشل بامتياز فى التباعد عن عمال مصر وترك أصواتهم فريسة لقوى لا تهتم كثيرا بمبدأ العدالة الاجتماعية. واختصر اليسار كل أجندته السياسية فى مهاجمة حمقاء مستمرة للتيار الإسلامى.
أما ليبراليو مصر فأزمتهم أعمق من أزمات غيرهم بكثير. فرغم توافر رأس المال، ورغم الوعود الحالمة بنموذج تنمية غربى مدنى حديث، إلا أن انفصالهم عن الواقع المصرى ليس له ما يبرره، أضف إلى ذلك التشرذم الكبير فى أحزابهم والغيرة الواسعة بين رموزهم.
ويبقى بعد ذلك عسكر مصر أو المجلس الأعلى للقوات المسلحة! وهو المجلس الذى نجح بتقدير يفوق الامتياز فى الحصول على سخط أغلبية الشعب المصرى. وفشل المجلس بجدارة فى إدارة المرحلة الانتقالية. ورغم تكرار تعهداتهم بعدم الطمع فى السلطة الرئاسية، ورغبتهم فى تسليم الرئاسة لسلطة مدنية منتخبة، إلا أن حالة الشك فيهم لها ما يبررها. فوضى الجدول الزمنى للمرحلة الانتقالية الذى يرى البعض أن المجلس العسكرى تواطأ ليخرج بهذه الصورة المشوهة، لا يعبر عن قدرة تآمرية للعسكريين بقدر ما يعبر عن ضعف فى الإمكانيات والفهم السياسى لقادتهم بصورة تشعر معها أحيانا بالشفقة عليهم.
ومن حسن حظ ثورتنا المصرية عدم وجود أى حليف خارجى سواء كان أمريكيا أو أوروبيا أو حتى عربيا مسلما. ولهذا السبب تحديدا لا تدين ثورتنا لأى قوة خارجية أو لأى مؤسسة دولية بأى شىء.
إلا أن العالم يريد أن تتبنى ثورة مصر تجارب دول أخرى، البعض يريد أن نسلك المسار التركى خاصة فيما آلت إليه العلاقات العسكرية المدنية، وما تتضمنه من حكم رشيد للإسلاميين، ويستشهدون بنجاح حزب العدالة والتنمية فى تحقيق التنمية والديمقراطية معا. البعض يريد أن نتبنى نموذج التحول الديمقراطى فى إندونيسيا ذات الأغلبية المسلمة، والتى نجحت فى إقامة دولة حديثة ديمقراطية وحققت معها معدلات تنمية اقتصادية جيدة. آخرون يقترحون النظر إلى تجارب دول شرق أوروبا، وهناك حتى من طالب بضرورة أن نتعلم من تجارب شيلى والبرازيل!
وقد يكون ذلك كله راجعا لأن العالم لم يعهد رؤية منتجات «صناعة مصرية»، ناهيك عن عدم إنتاج أى أفكار أو تقديم أى مصادر جديدة للمعرفة، ولهذا قد يكون صعبا عليه أن يفهم أن مصر تقدم الآن شيئا جديدا من إنتاجها. ما حدث ويحدث فى مصر، سواء كان النجاح فى إسقاط النظام، أو ما يجرى من محاولات بناء دولة حديثة وديمقراطية، وما نشهده من تعبير الشعب المصرى عن نفسه سياسيا، حيث يرتدى البعض رداء الإخوان المسلمين، أو عباءة السلفيين، أو حتى بدله الليبراليين أو شعار اليساريين، هو تفاعل صحى. ما حدث ويحدث هو تعبير عن منتج مصرى جديد خالص يصنعه شعب من 90 مليون نسمة، منهم 36 مليونا يعيشون تحت خط الفقر، ومنهم 32 مليون مصرى لا يعرفون القراءة أو الكتابة.
فريدريش إنجلز، رفيق كارل ماركس، عرف الثورة بأنها «عملية الولادة التى يخرج فيها وليد جديد من رحم المجتمع القديم»، وما زال بأيدى الشعب المصرى أن يختار السيناريو الأصعب فيخرج الوليد عفيا، أو أن يختار البديل الأسهل ويخرج الوليد مشوها.