وتدور الأيام ونأتى مرة جديدة لـ«احتفالية فلسطين للأدب (بالفست)»، التى أنشأناها (نحن مجموعة من الصديقات والأصدقاء) فى عام ٢٠٠٧، والتى تقيم فعالياتها فى فلسطين المحتلة هذا الأسبوع للعام السابع. والاحتفالية تدعو كل عام نحو عشرة من الأدباء والفنانين ذوى الجمهور العريض وتصطحبهم إلى فلسطين. عدد الفنانين المشاركين يختلف كل عام بحسب ما استطعنا تجميعه من تمويل على مدار السنة، والحمد لله فقد نجحنا فى تكوين مجموعة شبه ثابتة من الداعمين والشركاء، من ضمنهم المجلس الثقافى البريطانى، لكن أغلبهم من فلسطينيى الشتات، يمكنون بالفست من التحقق كل عام. ولم تكن الاحتفالية لتتحقق لولا أن كل من يعمل عليها ــ من إخراج الفعاليات لترجمة وتحرير النصوص، لتصميم المطبوعات، لتنسيق السفر والتنقل والإقامة والأكل، للتصوير والتوثيق، للعلاقات العامة وتنظيم بيع الكتب ــ لا يتقاضى إلا ما يغطى مصروفاته للفترة التى تحتاجها منه الاحتفالية.
تتعمد الاحتفالية دعوة الأدباء والفنانين ذوى التأثير الواسع على الجمهور وعلى الرأى العام ــ وقد اصطحبت إلى فلسطين حتى اليوم نحو مائة فنان من بريطانيا وأمريكا وكندا والدانمارك والسويد والهند وباكستان ــ وبعضهم من العرب الحاملين للجوازات الأجنبية. وبالفست منذ بدايتها تلتزم عمليا بسياسة المقاطعة الثقافية والأكاديمية لإسرائيل التى نادى بها المجتمع المدنى الفلسطينى فى عام ٢٠٠٤، وقد أعلنت هذا الالتزام بشكل رسمى عام ٢٠١٢. كما تلتزم الاحتفالية أيضا بالتوجه الفلسطينى الذى يرفض الحدود التى يرسمها الاستعمار والاستيطان والسياسة، فتقيم فعالياتها فيما يتاح لها من مساحات فى المدن المحتلة فى ١٩٦٧، والمحتلة فى ١٩٤٨، وفى غزة.
كان أحد أصدقاء الدراسة القدامى يحب أن يسخر من اهتمامى بالقضية الفلسطينية مستشهدا بمقولة «سايبة ابنها يعيط ورايحة تسكت ابن الجيران»! لكنى، فى الحقيقة، مقتنعة تماما بأن المسألة الفلسطينية هى فى صميم ما يخصنى ــ ليس فقط كإنسان يتمسك بقيم العدالة والمساواة وينشغل ضميره بانتهاكها فى أى مكان من العالم ــ وإنما بشكل أنانى بحت كمصرية عربية ترى أن أمور بلادها لن تستقيم وأرض جيراننا تستلب، وشبابهم يعذبون ويسجنون، وقدسنا تستهدف، ومشروع استعمارى استثمارى معادٍ حداثى كذاب مزَيِّف ينضج ويستوى على عتبتنا.
المسألة الفلسطينية ليست فقط جرحا تنزف منه دماؤنا فتضعفنا، هى جرح قد تلوث فيرسل السموم إلى أجهزة وأطراف الجسد. هل كانت الحرب ستُشَنّ على العراق لولا وجود إسرائيل فى المنطقة؟ وماذا عن أثر إسرائيل فى لبنان؟ وفى بناء سد النهضة ومشروعات أخرى تؤثر على مصر فى حوض النيل؟ هل كانت مشاكلنا فى سيناء لتقوم إن لم تكن إسرائيل؟ هل كانت الأسمدة المسرطنة ستدخل إلى أراضينا لولا إسرائيل؟ لا أنفى أبدا مسئولية حكوماتنا المتعاقبة فى التعامل إما المغرض أو العبيط ــ أو المغرض والعبيط معا ــ مع هذه الظواهر لكن الظواهر أصلها فى الوجود الإسرائيلى الظالم والعدوانى فى المنطقة.
لن تختفى إسرائيل كبنى آدمين أو حتى كدولة ــ لكننا بالتأكيد بحاجة لأن تغير إسرائيل شخصيتها تماما: الحصار يرفع عن غزة، والاحتلال عن الضفة، والظلم عن الفلسطينيين ذوى الجنسية الإسرائيلية. وسواء كان الحل حل الدولتين أو حل الدولة الواحدة فلن تستقيم أمور المنطقة إلا لو لفظت إسرائيل الأيديولوجيا الصهيونية العنصرية فأصبحت دولة لكل مواطنيها. ولكى يحدث هذا فنحن بحاجة لضعط من الرأى العام فى كل العالم ــ ومن هنا جاء الدافع لإقامة احتفالية فلسطين للأدب.
نحن الآن فى قلب العمل. معنا كتاب من بينهم الروائى والمصور الشاب النيجيري/الأمريكى تيجو كول الذى «قش» تقريبا كل الجوائز الأدبية الأمريكية فى العام الماضى، ومعنا أيضا مايكل أونداتجى، صاحب الرواية التى اقتبس منها الفيلم الأشهر: «المريض البريطانى»، والكاتبة العراقية/البريطانية المناضلة هيفاء زنكنة، وغيرهم. عبرنا من جسر الملك حسين على نهر الأردن يوم السبت، وأقمنا الفعاليات إلى الآن فى رام الله والقدس وجامعة بيت لحم، ومخيم عايدة، وفى الخليل ومسرح الميدان، العربى، فى حيفا (وأهلا بكم لو تابعتونا (palfest.org. أكتب هذا من عكا، وستقرأونه ونحن فى نابلس. أتينا بسلام أبوآمنة وفرقتها من الناصرة لتغنى فى القدس، وبرسالة فيديو من عاطف أبوسيف من غزة عرضت فى حيفا، وغدا ستعزف فرقة «دام» العربية من اللد فى نابلس. ولكل واحدة من هذه حكاية، وللطرق بينهم حكاية سأحكيها إن شاء الله. نحن نمد الخيوط بين محبى الحرية ومناصرى التعددية ومن لا يستغنون أبدا عن العدالة، ونعمل على هدى كلمات المفكر الفلسطينى العربى الإنسانى، الباقى الكبير إدوارد سعيد فنواجه ثقافة القوة بقوة الثقافة.