الحال والمقام - أحمد مجاهد - بوابة الشروق
الإثنين 6 يناير 2025 11:43 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحال والمقام

نشر فى : الأحد 5 يوليه 2009 - 11:15 م | آخر تحديث : الأحد 5 يوليه 2009 - 11:15 م
أدخل النقاد العرب القدماء مراعاة مقتضى الحال للمخاطب بوصفها عنصرا من العناصر المهمة فى ميزان الحكم البلاغى على الأعمال الإبداعية بالحسن أو القبح، فالخطاب الذى يقبل فى حال الفرح لا يقبل فى سياق الحزن، وما تخاطب به الغفير لا يليق أن تخاطب به الوزير، وإن كانت حرفية المبدع وعبقريته تسمح له أحيانا بأن يقول كل ما يريده فى تلميح أقرب إلى التصريح.

ويمكننا أن نجد نموذجا عبقريا لهذا فى الأبيات التى خلص فيها المتنبى لعتاب سيف الدولة،حيث يقول فى بدايتها:

يا أعدل الناس إلا فى معاملتى فيك الخصام وأنت الخصم والحكمُ

فقوله فى البداية «يا أعدل الناس» يشى بمدحه بصفة العدل، لكنه سرعان ما يستثنى نفسه من عدله «إلا فى معاملتى»، ولما كان الإنسان إما أن يوصف بكونه عادلا أو غير عادل، فإن المتنبى يكون قد نفى صفة العدل عنه جملة فى الشطرة نفسها، قبل أن ينتقل للشطرة الثانية التى يؤكد فيها أن سيف الدولة فى هذا الموقف هو الخصم والحكم، وهو موقف جائر بالضرورة.

ثم ينتقل المتنبى بعد هذا المدخل إلى أبيات ثلاثة محكمة البناء والترتيب على المستوى المنطقى والفنى أيضا، حيث يقول:

أعيذها نظرات منك صادقة أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورمُ
وما انتفاع أخى الدنيا بناظره إذا استوت عنده الأنوار والظلمُ
أنا الذى نظر الأعمى إلى أدبى وأسمعـت كلماتى من به صممُ

إن المتنبى لا يستطيع التماس العذر لسيف الدولة فى تفضيله وتقريبه لأى شاعر آخر سواه، فهو أولا ينأى به وهو صاحب البصيرة عن أن يخدع فى شخص يتظاهر بفخامة الحجم والمكانة، على الرغم من أن هذه الضخامة ناتجة عن الورم والمرض وليس عن الشحم واللحم.

ثم ينتقل فى البيت الثانى من الحديث عن البصيرة إلى الحديث عن الإبصار، فاكتشاف أى شخص لمدى الفرق الشاسع فى المستوى بين المتنبى وسواه لا يحتاج إلى بصيرة، بل يحتاج إلى مجرد النظر للتفرقة بين الأنوار والظلمات.

والأمر لم يمر بهذه السلاسة، بل جاء عبر سياق التهكم الذى أنزل فيه المتنبى سيف الدولة بداية من مكانته العالية إلى مصاف الإنسان العادى عبر استخدامه لكنية «أخى الدنيا»، كما أنه يقطع عبر الإجابة المفترضة فى فضاء النص على الاستفهام الاستنكارى الذى يتضمنه البيت، بأنه لا نفع لبصره فى هذه الحالة، وأنه يجب وصفه بالكفيف ما دام لا يستطيع التفرقة بين الظلمات والنور.

إذن فقد أقر المتنبى فى البيتين السابقين بنعومة شديدة بأن سيف الدولة قد صار بموقفه هذا منه أعمى البصيرة والبصر، ولكن حتى هذا العماء لا يغفر له عدم القدرة على التفرقة بين المتنبى وغيره من الشعراء، حيث يقول فى البيت التالى:

أنا الذى نظر الأعمى إلى أدبى وأسمعت كلماتى من به صمم

فحتى الأعمى والأصم يجب أن يرى المتنبى ويسمعه ويستطيع أن يفرق بينه وبين غيره من الشعراء فى سهولة ويسر.

ويستطرد المتنبى بعد هذا فى بيتين من الفخر الخالص قبل العودة إلى العتاب مرة أخرى، حيث يقول:

أنام ملء جفونى عن شواردها ويسـهر الخلق جراها ويختصم
فالخيل والليل والبيداء تعرفنى والسيف والرمح والقرطاس والقلم

فبينما يسهر الشعراء الآخرون يبحثون عن كلمات لقوافى قصائدهم، ويختلفون فيما بينهم حول مدى صحتها، فإن شوارد اللغة جميعها ترد على خاطر المتنبى فى سهولة ويسر وهو يغط فى نومه العميق ليتخير منها ما يشاء. إنه الفارس الشاعر الذى جمع بين الحسنيين، وكان له صيت ذائع فيهما، فصارت الجوامد كالبيداء والسيف والرمح والورق والقلم، والحيوانات كالخيل، وأوقات الخطر كالليل، تعرف قدره حق المعرفة، فكيف لسيف الدولة ألا يدرك ما تدركه الجوامد والحيوانات؟

ثم يعود المتنبى إلى العتاب مرة أخيرة، فيقول:

يا مـن يعــز عـلينا أن نفـارقــهم وجــداننـا كل شىء بعدكم عدمُ
مـا كان أخـــلقنا منكـم بتَكْـُرمةٍ لــو أن أمـركــم مــن أمـــرنا أمـــمُ
إن كان سرَّكم ما قال حاسدنا فمــا لجــرح إذا أرضــــاكـم ألــــمُ
وبيننا لـــو رعـــيتم ذاك مـعرفـةٌ إن المعارف فى أهل النهى ذممُ
كـم تطـلبون لنا عيبا فيعجزكم ويكـــــــره الله ما تأتون والكــــرمُ

إن المتنبى يبدأ هادئا مقرا بأن كل شىء سوف يصبح عدما بعد فراقه لسيف الدولة الذى يعز عليه، لكنه سرعان ما ينبهه إلى أنه كان يستحق منه معاملة أكرم من هذه لو كان حبل الود مازال موصولا بينهما. ثم يلين مرة أخرى مدعيا أنه لو كان قد سر سيف الدولة ما قاله حاسد المتنبى فهو راض بأن يكون سيف الدولة سعيدا حتى وإن كانت سعادته على حسابه، وذلك قبل أن يصفعه بقوله إن بينهما معرفة وثيقة هى بمثابة العقد الموثق عند أصحاب العقول الذين لا يتأثرون بالشائعات فى حكمهم على أصدقائهم المقربين، وكأنه يوجه له اتهاما صريحا بأنه فى هذا الموقف قد أصبح بلا عقل. وذلك قبل أن يضع سيف الدولة فى سلة واحدة مع هذا الحاسد عقابا له على تصديقه، فيقول: «كم تطلبون لنا عيبا فيعجزكم»، حيث يرى المتنبى فى سياق توبيخى لاذع أن هذا السلوك المترصد هو سلوك شائن وغير كريم على المستوى الدينى والأخلاقى أيضا، وبخاصة أنهم يعجزون دائما عن العثور على عيب فى المتنبى أو فى شعره.

إنه المتنبى الذى يعرف جيدا ماذا يقول، ومتى يقول، وكيف يقول، دون أن تستطيع أن تمسك عليه شيئا.
التعليقات