سمعنا ما فيه الكفاية وأكثر عن أسباب «الكمون» الطويل الذى دخلت فيه السياسة الخارجية المصرية لمدة عقدين أو أكثر. حدثت بين الحين والآخر فرقعات هنا وهناك، ووقعت زيارات عديدة قام بها رئيس الجمهورية ووزراء لدول أجنبية، كان بعضنا يعرف أن عائد أكثرها لم يستحق ما أنفقناه عليها ويعرف أن عددا منها ما كان يجب القيام به أساسا. واستقبلنا زوارا كثيرين جاءوا إلى القاهرة، وعادوا يشكون أنهم لم يجدوا فى انتظارهم ملفات معدة أو خبراء جاهزين للتفاوض. وانعقدت مؤتمرات إقليمية ودولية فى شرم الشيخ وغيرها من المنتجعات نعلم الآن علم اليقين أنها لم تفلح فى إخراج السياسة الخارجية المصرية من «كمونها»، أو أنها حققت اختراقات مهمة إقليميا ودوليا، أو دفعت بالتنمية البشرية والمادية فى مصر خطوات واسعة سواء فى الحقوق والحريات أو فى مستوى الرفاه. نعلم أيضا والدلائل تشهد أنه حتى قضية فلسطين التى تخصص فيها وخصص لها منتجع شرم الشيخ، وتكونت لها فرق عمل تجتمع وتنفض، وتمر السنين عليها لم تحقق تقدما يذكر نحو استخلاص حق واحد للشعب الفلسطينى.
●●●
مرت شهور على ثورة يناير. وما زال أغلب المراقبين يقدرون لمصر ظروفها. يعتبرون أن هذه الظروف مسئولة بصفة أساسية عن بقاء هذه السياسة فى حال الكمون التى وضعها فيها مبارك ومساعدوه. فهمنا وتفهمنا هذه الظروف ومسئوليتها وإن جاء التفهم أحيانا مدفوعا بقلق يتزايد ومصحوبا بتوازنات دولية تتبدل وبأوضاع فى الدول الغربية تنحدر بسرعة متناهية فى هاوية أزمة اقتصادية، هى بالتأكيد غير مسبوقة فى تاريخ النظام الرأسمالى العالمى. يقال لنا أحيانا، لا تقلقوا فمن حسن حظ مصر أن نظام مبارك لم يكن موفقا أو كفؤا إلى الحد أنه تسبب فى تعطيل مسيرة اندماج مصر فى النظام الاقتصادى العالمى وفى حرمان مصر من كثير من إنجازات العولمة بشكل خاص. هذا الفشل يعود إليه الفضل فى أننا مازلنا بعيدين بعض الشىء عن الآثار المباشرة لأزمة اليورو والاقتصاد الغربى عموما إلا أننا لم ننعزل عن الآثار الاجتماعية والسياسية ومنها الآثار التى لحقت ببعض أهداف وأسباب ثورات الربيع العربى.
●●●
نفهم أن ظروف الشهور الماضية فى مصر كانت صعبة ومعقدة، ولم تترك فرصة للمسئولين عن ادارة «الدبلوماسية» المصرية للخروج من حالة الكمون والانتقال من مهام الواجبات الروتينية إلى مهام تتناسب وضخامة التطورات الإقليمية والدولية المحيطة. اكتفت دبلوماسيتنا بالمراقبة ومتابعة مواقف دول العالم وشعوبها من الثورة المصرية وتطوراتها الداخلية. ركزت الجهد على تفادى التورط فى أنشطة خارجية فى وقت ادعى مسئولون كبار فى لقاءات خاصة أن بصيرتنا الدبلوماسية كانت شبه معطلة. ومع ذلك أعتقد أن المسئولين عن السياسة الخارجية المصرية ربما نجحوا فى تجنب إصابتنا بأضرار مباشرة بسبب تداعيات ما يحدث فى المنطقة العربية، لكنى واثق أننا تحت ضغط الزعم بضعف البصيرة وانشغالنا بصراعات السلطة والقوة فى الداخل فقدنا بعض ما تبقى لنا من قوة وخبرة ضروريتين للتأثير فيما حولنا. لم نستفد من الطاقة الجديدة التى فجرتها عزيمة الثورة لوضع خطط حمايتها وأساليب تنفيذها وحشد أدوات تنفيذها.
تصورنا، وربما بالغنا بعض الشىء فيما تصورنا، تصورنا أن مهمتين أساسيتين تنتظران الدبلوماسية المصرية كلاهما يخدم ضرورات وأهداف الأمن القومى المصرى فى المستقبل. أولى المهمتين، تمهيد شعوب الجوار وقواها السياسية لاستقبال أقوى وأهم رسالة حملتها مصر منذ أن طرحت وقادت حملة النضال من أجل تحقيق الاستقلال الوطنى لجميع أقطار المنطقة. أما المهمة الثانية فكانت العمل على تكوين رأى عام مصرى مستعد للدفاع عن المكانة المتميزة التى أثمرتها الثورة لمصر فى الخارج.
ولن يتحقق النجاح لهذه المهمة إذا لم يكن الرأى العام مقتنعا برسالة مصر الجديدة ومطلعا على حقيقة الأوضاع فى المنطقة ومقدرا حجم المخاطر المحتملة. لن نهول من حجم هذه المخاطر ولن نقلل من شأنها. نذكر فقط بتجربة سابقة حين نشأت أخطار نتيجة عودة مصر لاحتلال موقع متميز واستملاك مكانة مرموقة ونتيجة إعرابها عن استعدادها حمل رسالة ونشرها فى أرجاء الإقليم الذى تعيش فيه وتنتمى لقيمه وطموحاته.
يسألون فى الخارج، وكثيرون فى الداخل، عن السبب فى أن صناع السياسة الخارجية المصرية رفضوا أداء هاتين المهمتين رغم أن أدوات تحقيقهما توفرت وبدون جهد من جانبهم. كانت الطاقة الثورية متوفرة بل وكانت متدفقة وجاهزة لتحمل شتى المخاطر. وبدت الشعوب المجاورة مستعدة ومرحبة بالرسالة الجديدة التى انطلقت من تونس واحتضنتها مصر. وكان فى صفوف وزارة الخارجية المصرية وغيرها من أجهزة عملية صنع السياسة جيل من الشباب متفهم لضرورات العودة، بشرف وبرأس مرفوع ورضاء عن الذات، إلى الدائرة الإقليمية. توفرت الأدوات الكافية لنقل أى دولة من موقع متدنٍ دوليا إلى موقع متقدم، لكننا أضعنا الفرصة. والأدهى أننا لم نتحسب للمخاطر الآتية من الخارج وبخاصة تلك التى تربصت بالثورة واستهدفت لحمة الشعب.
ضاعت الفرصة. هل ضاعت لأن أحدا لم يهتم أم ضاعت لأن هناك من تعمد أن تضيع؟ لا يخالجنى أدنى شك فى أن الرأى السائد فى بعض أوساط الجماعة الحاكمة التى هيمنت على عملية صنع أو تجميد السياسة الخارجية فى مصر كان، وأخشى أنه ما يزال، غير مقتنع تماما بأن هذه الثورة المصرية التى أقسموا خلال أيامها الأولى على حمايتها تحمل رسالة، أو أنها هى نفسها رسالة. ما يزال البعض يعتقد أن مؤامرة دولية غرست بذور هذه الثورات ورعتها وتتعهدها بالحماية. هذا الاعتقاد الراسخ فى شريحة مصرية معينة راسخ أيضا فى مواقع عديدة تصنع السياسة والقرار فى دول عربية وبخاصة فى دول الخليج العربى وإيران وسوريا والجزائر والسودان. وقد سمعناه يتردد فى عواصم تلك البلاد كما نسمعه هناك منقولا عن قيادات فى مصر. الفرصة التى ضاعت كان لا بد أن تضيع مادام أن من بيده أو كان بيده قرار السياسة الخارجية المصرية يعتقد بأن ثورة لم تقع فى مصر، أو بأن ثورة ربما وقعت ولكن لا تحمل رسالة، أو بأن ثورة وقعت فى مصر وتحمل رسالة ولكن الأمن القومى، كما صاغته مدرسة مبارك يحضنا على الفصل بين الثورة والرسالة. يريدون أن يعم الخبر بأن الثورة تخريب وإرهاب وبأن الرسالة خطة تآمرية فيحق عليهما الحصار، أوالهلاك إن إستدعى الأمر.
●●●
عائدون إلى المنطقة العربية، إن آجلا أم عاجلا، لنجد أوضاعا اختلفت على نحو لم نتوقعه. وقع هذا الاختلاف، بينما كانت السياسة الخارجية المصرية فى عهد مبارك قاصرة على الموافقة على كل ما يصدر من القوى النفطية، دولا ومنظمات ورجالا، من سياسات وقرارات تتعلق بتوازنات المنطقة وأمنها وعلاقاتها بدول الجوار. عملت هذه السياسات على أن تبقى مصر دائما فى موقع الدولة العربية الأكبر ولكن العاجزة وبالضرورة تابعة.
إتفقت النخب الحاكمة هنا وهناك على إخفاء الحرج والاهانة والتصغير والتقليل بالإكثار من استخدام عبارة الشقيقة الكبرى. تركز الاهتمام على وسائل تضمن عدم إيقاظ الوحش الرابض على ضفتى النيل غافلين جميعا عن تيارات تتحرك وتستعد لتتدفق قوى حقيقية ومؤثرة ليس فقط فى مصر بل وفى الساحات العربية.
تخرج مصر قريبا أو هذا هو ما أتصور وأتمنى. فإذا كان فى النية أن تخرج فواجبها أن تسرع الخطى. هناك من حولنا من ينتظر الرسالة، ويستعد لدور يحمى به ثورة مصر وشقيقاتها. ولكن هناك أيضا من يستعد لمعركة تحرير مصر من ثورتها وتحصين العرب ضدها. لكن هنا فى الوقت نفسه قوى عديدة تعمل لتغيير البيئة الإقليمية قبل أن تخرج مصر من كمونها الطويل.
هناك مشرق يغلى بعدم اليقين. وخليج يغلى بعدم الاطمئنان. ومغرب كبير مشدود بقوة نحو «حالة إرهابية» تزحف فى اتجاهات شتى فى منطقة «الساحل» فى غرب أفريقيا. تتحرك من دولة إلى أخرى، ومن الساحل تزحف شرقا لتلتحم بتنظيمات وقوى أخرى تعمل فى وسط القارة وشرقها، وصولا إلى باب المندب، حيث يجرى تأهيل اليمن للحلول محل أفغانستان، كدولة راعية للإرهاب، وفاقدة الشرعية والمستقبل معا.
●●●
أمن الثورة المصرية معلق بخيوط عديدة، والخارج واحد من أهم هذه الخيوط.