رجحت النتائج النهائية للاستفتاء الشعبى الذى أجرته بريطانيا حول عضويتها فى الاتحاد الأوروبى «البريكسيت» كفة مؤيدى الخروج بنسبة 51.9% مقابل 48.1% لراغبى البقاء. وألقت نتيجة هذا الاستفتاء بظلالها على الشأن الاقتصادى فى دول العالم على اختلاف درجة علاقاتها مع بريطانيا والاتحاد الأوروبى. وفى مصر، لم يختلف الوضع كثيرا إذ دارت فى أعقاب نتائج هذا الاستفتاء نقاشات مماثلة تباينت خلالها آراء المحللين الاقتصاديين، إلا أن اللافت للنظر هو أن القضية الأكثر طرحا فى خضم هذه النقاشات لا تزال تتركز حول السؤال «هل» وليس «كيف؟» ستتأثر مصر من تداعيات «البريكسيت». فى هذا الصدد، نستعرض فيما يلى بإيجاز عدد من النقاط المحورية التى يجب أخذها فى الاعتبار عند تحليل نتائج وانعكاسات «البريكسيت» على الاقتصاد المصرى وعلاقاتنا بالاتحاد الأوروبى.
أولا: إن فى ظل العولمة الاقتصادية التى تشكل جوهر العلاقات الدولية المعاصرة، والتى تلاشت فى ظلها الحدود الجغرافية وتشابكت المصالح الاقتصادية والعلاقات التجارية بين أقاليم ودول العالم، يصبح من السذاجة الاقتصادية تسطيح النقاش حول نتائج «البريكسيت» لمجرد وجود التأثير من عدمه. فبريطانيا تمثل أحد اللاعبين الأساسيين فى الاقتصاد والسياسة الأوروبية، والسوق الأساسية للخدمات المالية والمصرفية للاتحاد الأوروبى. علاوةً على ذلك، فالاتحاد الأوروبى هو الشريك التجارى الأول لمصر استيرادا وتصديرا؛ كما أن حصة بريطانيا تبلغ حوالى 13% من جملة الصادرات و7.5% من جملة الواردات المصرية من الاتحاد الأوروبى. إلى جانب هذا، فقد بلغت جملة الاستثمارات البريطانية فى مصر حوالى 25 مليار دولار، منها حوالى 5.5 مليار دولار استثمارات مباشرة، أو حوالى 40% من إجمالى الاستثمارات الأجنبية فى مصر خلال العام المالى 2014ــ2015. وبناءً على ذلك، تصبح لكل خطوة أوروبية وقعها وتداعياتها على الاقتصاد المصرى، وتصير مسألة التأثير ذاتها محسومة لتصبح المسألة الأولى بالتحليل والدراسة هى أوجه ونوعية ومستوى هذا التأثير على الاقتصاد المصرى.
***
ثانيا: ينبغى الحذر الشديد والمراقبة المتأنية لتطورات المشهد الأوروبى، بلا إسراف فى التهويل أو التقليل من آثار هذه الأزمة على الاقتصاد المصرى؛ فالحديث عن آثار محتملة فى الوقت الراهن لا يعدو مجرد تكهنات وتقديرات أولية لن تتضح معالمها إلا فى ضوء ما ستسفر عنه نتائج مفاوضات الخروج بين بريطانيا والاتحاد ووضع وشكل العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الطرفين مستقبلا. ففى حال نجحت بريطانيا فى تحقيق «الخروج الآمن» من الاتحاد الأوروبى من خلال اتفاق تجارى بشروط تمكنها من تأمين علاقتها التجارية مع الاتحاد وشركائها الآخرين، فستقل نسبيا حدة التداعيات السلبية لانفصالها عن الاتحاد الأوروبى على مصر. أما فى حال تعثرت هذه المفاوضات وفشلت بريطانيا فى التوافق مع الاتحاد، فستكون ملزمة بتطبيق التعريفات الجمركية وفقا لبنود منظمة التجارة العالمية مما سيعيق حركة التبادل التجارى مع شركائها التجاريين ويؤثر سلبا على علاقاتها الاقتصادية وحركة رءوس الأموال والاستثمارات منها وإليها. وعليه، فإن مصر معنية بشكل كبير بالنتائج التى ستسفر عنها هذه المفاوضات والتى ستحدد الوضع المستقبلى لبريطانيا فى الاتفاقيات التى وقعتها مصر مع الاتحاد الأوروبى وتأثيره جمركيا وفنيا على منتجاتها وصادراتها للاتحاد الأوروبى وبريطانيا.
ثالثا: تقتضى النظرة الإجمالية لانعكاسات «البريكسيت» على الاقتصاد المصرى عدم الخلط بين التداعيات الآنية فى المدى القصير والآثار المتوقعة على المدى الطويل. فبالفعل، أعقب نتائج الاستفتاء هبوطا للجنيه الاسترلينى لأدنى مستوياته منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضى، وتراجعا فى أسعار النفط العالمية، وانكماشا فى تعاملات الأسواق المالية الأوروبية والآسيوية. وطبيعيا، انتقلت هذه التداعيات إلى الاقتصاد المصرى فى صورة ارتفاع سعر صرف الدولار، وركود فى أسواق الذهب، وتراجع لمؤشرات البورصة، إلا أن هذه الانعكاسات تبقى متوقعة فى مثل هذه الحالات، ومن المتوقع أن تعاود الأسعار والأسواق توازنها فى المدى القصير مرة أخرى. ولذلك، فمن الضرورى ألا يغفلنا التعامل مع هذه التداعيات الوقتية عن تحليل التأثيرات المتوقعة على المدى الطويل. وفى وجهة نظرى، فإن أحد أهم ما يجب أن يعنينا على المدى الطويل هو الأخذ فى الاعتبار عند رسم وتخطيط العلاقات التجارية المصرية ــ الأوروبية أن الاتحاد الأوروبى الذى نعرفه اليوم قد تتغير ملامحه مستقبلا، فقد جعل «البريكسيت» مسألة خروج دول أخرى من عضوية الاتحاد الأوروبى أمرا مطروحا، وقد تصاعدت بالفعل دعوات مماثلة فى دول أخرى للتصويت على الانفصال؛ الأمر الذى قد يؤدى إلى الدخول فيما يسمى «بـتأثير الدومينو». وأمام هذه الاحتمالية، وفى ظل أهمية الاتحاد الأوروبى كشريك تجارى لمصر تصبح مسألة التنوع السوقى لصادراتنا السلعية والانفتاح على شركاء تجاريين، خصوصا فى دول آسيا التى تتمتع اقتصاداتها بمستويات أسرع من النمو والاستقرار، ضرورةً ملحةً لتقليل الآثار السلبية للسيناريوهات المحتملة لعدم الاستقرار الاقتصادى فى الاتحاد الأوروبى مستقبلا.
رابعا: يجب ألا يقتصر النظر عند دراسة انعكاسات «البريكسيت» على الآثار المباشرة فقط؛ وإنما ينبغى أن يؤخذ فى الاعتبار الآثار غير المباشرة والتى قد تنتقل للاقتصاد المصرى من خلال تأثيراته على اقتصادات شركائنا الاقتصاديين الإقليميين. فعلى سبيل المثال، مع تزايد توقعات تراجع الاقتصاد البريطانى بعد «البريكسيت»، يصبح الاقتصاد الخليجى عرضة لتأثيرات سلبية عديدة، فدول الخليج تعد أحد أكبر المستثمرين فى بريطانيا ــ خصوصا فى قطاع العقارات والأسهم والسندات وغيرها، وقد تتأثر بشدة من تقلبات أسعار الاسترلينى وانخفاض القيمة السوقية والعوائد على استثماراتها فى بريطانيا، ناهيك عن تزامن ذلك مع الدورة الحالية لأسعار النفط المتراجعة فى السوق العالمية والتى تعانى من ويلاتها الاقتصادات الخليجية. كل هذه الملابسات، تشكل تأثيرات غير مباشرة محتملة على الاقتصاد المصرى وقد تلقى بظلالها على مستقبل واستمرارية الدعم الخليجى المالى والاستثمارى للاقتصاد المصرى المترنح حاليا.
***
خامسا: على الرغم مما قد يبدو ظاهرا من قراءة التحليلات الحالية حول النتائج المتوقعة «للبريكسيت» بأن تأثيراته على المدى الطويل ستكون سلبية أكثر منها إيجابية، فلابد أن يكون واضحا لصانع القرار الاقتصادى فى مصر أن الأزمات الاقتصادية بقدر ما ينتج عنها من مشكلات لأطراف معينة؛ فإنها تطرح فرصا لأطراف أخرى. فمن متابعة الحملات الدعائية التى روجت لفكرة الانفصال عن الاتحاد الأوروبى، نجد أن جانبا كبيرا منها قد ركز على فكرة التحرر الاقتصادى من قيود الاتحاد الأوروبى ومؤسساته المركزية فى بروكسل. وبالتالى، لو صح هذا التصور، فإن الوضع الجديد سيمنح الشركات والمستثمرين البريطانيين ــ من ناحية ــ مرونة أكبر فى إبرام العقود التجارية والشراكات الاقتصادية مع دول العالم. ومن ناحية أخرى، فلن تكون دول الاتحاد الأوروبى هى الأكثر إغراء للشركات والمؤسسات المالية البريطانية والتى ستفقد المزايا التى تسمح لها بتسويق خدماتها المالية إلى دول الاتحاد الأوروبى وفق شروط تفضيلية. ومن ثم؛ فقد ينتج عن «البريكسيت» إعادة توزيع لجانب من الاستثمارات البريطانية أو أن تنقل البنوك والمؤسسات المالية قسما من نشاطها من داخل الاتحاد إلى أقاليم العالم الأخرى. وهنا، فقد تكون مصر أمام فرصة سانحة ــ هى أحوج ما تكون إليها حاليا ــ لاجتذاب حصة من تلك الاستثمارات المتوقعة، ولكن يبقى اقتناصها مرهونا على قدرة الحكومة على خلق مناخ استثمارى أكثر جذبا وتحسين بيئة الأعمال والترويج الاستثمارى فى أوساط الشركات ورجال الأعمال البريطانيين فى الفترة المقبلة.
الخلاصة، مما لا شك فيه أن «البريكسيت» ستكون له تداعيات فورية قصيرة المدى وتأثيرات طويلة المدى على الاقتصاد المصرى. ولتحديد وتقييم أوجه ونوعية ومستوى هذه التأثيرات، فمن الضرورى المتابعة المتأنية لسير ونتائج مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، والتحليل المستمر لتطورات هذه المفاوضات وتداعياتها، وتقييم آثارها المباشرة وغير المباشرة وفق رؤية شاملة على المديين القصير والطويل، وإعداد بدائل سريعة للتعامل مع التأثيرات السلبية المحتملة وتحجيم أثرها على الاقتصاد المصرى.