جواز سفر للبيع - داليا شمس - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 1:27 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

جواز سفر للبيع

نشر فى : السبت 5 أغسطس 2023 - 9:15 م | آخر تحديث : السبت 5 أغسطس 2023 - 9:15 م
أكمل مكان النقط: لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون... مقولة الزعيم المناضل مصطفى كامل التى نرددها منذ أن تفوه بها على مسرح زيزينيا بالإسكندرية فى أكتوبر 1907 بمناسبة تدشين الحزب الوطنى تتخذ منحى آخر هذه الأيام، خاصة حين تطالعنا الإعلانات المختلفة على وسائل التواصل الاجتماعى التى تقترح على القادرين الحصول على جنسيات متنوعة وإقامات دائمة فى دول بعينها مقابل الاستثمار المادى أو تملك عقار بقيمة محددة بحسب قوانين واشتراطات كل دولة. أى أن من يتمتع بإمكانات مادية قد يكمل مكان النقط ويختار أن يكون مالطيا أو قبرصيا أو كاريبيا وفقا للعرض والطلب، فهناك عشرات الدول، عددها يربو على المائة، توفر جوازات سفر وإقامات «ذهبية» لمن يرغب، كما أن بيع وشراء الجنسية صار تجارة عالمية رائجة ومتنامية وصل حجمها إلى نحو عشرين مليار دولار سنويا. هذا فى الوقت الذى تتصاعد فيه صراعات الهويات ويتزايد نزوح اللاجئين ويتقاتل الناس بسبب الانتماءات العرقية والدينية ويلقى العديد من ضحايا الهجرة غير الشرعية مصرعهم غرقا فى البحار والمحيطات ويصعب على المواطنين العاديين أكثر فأكثر الإجابة عن سؤال «من نحن؟».
• • •
وكما كانت هناك قائمة سوداء للملاذات الضريبية، أصبحت هناك قائمة تضم دول «الجوازات الذهبية» التى يقبل عليها موسرو العالم. بدأت فى ثمانينيات القرن الفائت بعض الدول مثل الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا فى إعطاء إقامات للأجانب بشكل أكثر براجماتية من غيرها، وغالبا ما يكون ذلك خطوة إيجابية نحو الحصول على الجنسية التى لا تجود بها بسهولة، لكن بيزنس جوازات السفر تبلور فى دول أخرى مع مطلع الألفية الحالية.
تطور هذه السوق على يد محامى سويسرى من زيورخ يحمل اسم كريستيان كيلين، يمتلك مكتب «هينلى وشركاه» للاستشارات القانونية (Henley and partners)، حين استعانت به إحدى دول الكاريبى للخروج من أزمتها الاقتصادية، إذ طلبت إليه مساعدتها فى تنمية مواردها من خلال برنامج خاص بمنح جنسيتها للراغبين وإقامات دائمة للمستثمرين. حكومة دولة سانت كيتس ونيفيس (دولة اتحادية من جزيرتين، تعد أصغر دولة فى الأمريكتين من حيث المساحة وعدد السكان) كان لديها برنامج قائم بالفعل منذ الثمانينيات وكان المطلوب منه مساندتها لتفعيله وتنشيطه، وهو ما حققه كيلين بنجاح بحلول 2006، وحصدت الدولة الصغيرة التابعة للاتحاد الأوروبى مليار يورو نظير بيع جنسيتها، وصار برنامج «الاستثمار فى المواطنة» يشكل 25% من دخلها القومى.
سانت كيتس ونيفيس كانت تعانى من انخفاض ملحوظ فى الإيرادات وارتفاع معدل البطالة بسبب انهيار صناعة قصب السكر وانحسار الدعم الأوروبى، ووجد كريستيان كيلين الحل حتى اشتهر حول العالم بألقاب مثل «ملك الباسبورتات» و«السيد مواطنة». تعامل المحامى مع موضوع الجنسية بوصفها «سلعة فاخرة» وأيضا «لعبة لوتارية» كما يقول: «فلا أحد يختار فى أى بلد يولد، وهذا مصير غير عادل! لذا نحن نسهل الحصول على جنسية هذا البلد أو ذاك مقابل الاستثمار أو دفع مبالغ من المال». ثم جاءت الأزمة المالية العالمية سنة 2008 لتزيد من حجم تجارة المواطنة، فقد عانت العديد من الحكومات من عجز فى موازناتها العامة، وبالتالى لجأت لبيع الجنسية والإقامة لجذب استثمارات أجنبية مباشرة، وكالعادة كان أكثر الناس إقبالا على مثل هذه العروض من منطقة الشرق الأوسط وروسيا والصين، ففى هذه الدول يوجد أشخاص لديهم ثروات طائلة ويتمتعون بقدرة شرائية عالية لكنهم يفتقدون حرية الحركة فى ظل تعقيد إجراءات الحصول على تأشيرات سفر، فمن لديه طائرة خاصة لا يود انتظار فيزا لدخول أوروبا أو غيرها، وقد يرغب أيضا فى مزايا «الجنان الضريبية» التى توفرها الجزيرتان.
• • •
الخطوة التالية لازدهار سوق الاستثمار فى المواطنة، كانت مع دخول مالطا حلبة السباق عام 2014، بموافقة 89% من أعضاء البرلمان الأوروبى، مع تحفظ البعض الشديد على برنامجها الذى لا يسمح بنشر أسماء الحاصلين على جنسيتها ولا تتوافر فيه أدنى شروط الشفافية. مهندس هذا البرنامج الطموح كان أيضا المحامى السويسرى، كريستيان كيلين، الذى تحصل شركته على 4% من قيمة كل جواز سفر تبيعه الحكومة المالطية، فهذا الأخير يسمح بالعيش والعمل فى دول الاتحاد الأوروبى والتجول حول العالم دون قيد أو شرط فى وقت تستعر فيه الحروب ويهرب أصحاب المال من وطأة الحصار والعقوبات الاقتصادية، إلى ما غير ذلك. على سبيل المثال، سعى إليه وجوه بارزة من الأوليجارشية الروسية، من بينهم الملياردير القريب من الكرملين، أركادى فولوج، الذى شارك فى تأسيس العديد من شركات تكنولوجيا المعلومات فى بلاده.
هؤلاء الأثرياء يمكنهم بسهولة شراء عدة جوازات لعدة بلدان، والهروب عند الضرورة من قانون لآخر، وبالتالى الرهانات والمخاطر كبيرة. لذا حينما حاولت صحفية التحقيقات الاستقصائية والمدونة، دافنى كاروانا غاليزيا، التى ساهمت فى كشف وثائق بنما، التصدى لفضائح الاستثمار فى المواطنة تعرضت للاغتيال وانفجرت بها السيارة فى أكتوبر 2017 بالعاصمة المالطية، إلا أن ابنها ــ ماتيو ــ الحائز على جائزة بوليتزر فى الصحافة يستكمل مسيرتها ويتابع استغلال الشركات الوسيطة لضعف مؤسسات بعض الدول لمواصلة تجارتهم والحصول على عمولات لا بأس بها من وراء أنشطتهم التى تمتد إلى دول مختلفة مثل قبرص والجبل الأسود ومولدافيا وموناكو وكولومبيا وغيرها من الدول التى يتزايد عددها يوما بعد يوم، وقد التحقت بعض دول المنطقة العربية أيضا بقائمة الدول التى تمنح جنسيتها وإقامات ذهبية مقابل الاستثمار على أراضيها .
• • •
لا نعلم على المدى البعيد ماذا سيكون تأثير هذه التغيرات على تركيبة وحركة السكان، يتساءل بعض المراقبين إن كانت ستخلق نوعا مختلفا من «البدون» أو من «عديمى الجنسية» الذين سيتفرق دمهم بين القبائل بصيغة حديثة وتتعذر ملاحقتهم خاصة حين يتعلق الأمر بالجريمة المنظمة وغسيل الأموال، كما يتساءل فريق آخر عن إمكانية إفراز شكل من الكوزموبوليتانية الجديدة، لكنها بالطبع ستفتقر إلى التفاعل الحضارى والثقافى والقيمى الذى كان يميز النموذج السابق، لأن الاستثمار فى المواطنة لا يتطلب بالضرورة العيش فى البلد ومجاراة تقاليده، كما أن نسبة من يتمتعون بمزايا هذه التجارة يظل محدودا رغم ازدهارها، فى مقابل الذين يولدون ويموتون دون أن يغادر أحدهم قريته. فى هذا العالم، هناك من يرسم على وجهه نظرة حزينة منكسرة ويتنهد وهو ذاهب إلى العمل، وهناك من يملأ حقائبه بالخرائط والمستندات والنقود ويرحل، وهناك من يظل عالقا على الحدود بين دولتين... ووسط كل هؤلاء يعاد رسم وتشكيل الأوطان ويتغير معناها.
التعليقات