استيقظت اليوم على زقزقة عصافير، لم أصدق أذناى. هذا النوع من الأصوات لم أسمعه يتسرب من هذا الشباك منذ سنين. وسط دهشتى، ركزت سمعى لأكتشف أن الزقزقة ليست عادية، ليست كالزقزقة التى عرفتها وأنا أصغر سنا والشارع أهدأ جلبة، أو التى عرفتها ذات صيف أو أكثر من موقعى فى بيت على جبل أو فى غابة. أما هذه الزقزقة المتسربة من شباك غرفتى فكأنها من عصفور «مزنوق» أو يائس.. عصفور يشكو ويلح فى الشكوى متعبا.
•••
أقيم فى مسكن يطل على شارع من أكثر شوارع مصر جلبة وضوضاء. كان شارعا هادئا وأنيقا عندما اخترت الإقامة فيه، فى وقت كان لنا حق اختيار ما نؤجره للسكن أو للعمل. هذا الشارع أصبح الآن مضمارا لسباق السيارات والدراجات البخارية من جميع الأنواع والأحجام والأصوات المنكرة، أشدها وحشية الأصوات التى تصدر من الدراجات البخارية. أظن أن أغلب راكبيها لابد أن يكونوا من البلطجية أو من شابه، يحلو لهم إزعاج أهل الحى بإيقاظهم مفزوعين فى الثالثة صباحا، وأحيانا فى الخامسة. وقد اعترف لى أحد الجيران أن فكرة اغتيال سائقى هذه الدراجات البخارية، المزودة بأسلحة صوت فتاكة، راودته وأنه قضى ساعات يخطط لمؤامرة لاصطيادهم والنيل منهم. وجدت لجارى العذر خاصة أن بيتنا يقع أمام مشفيين للولادة وأن جيرانا لنا يعالجون بعقاقير منومة أو مهدئة للآلام وبعضهم يعانى من أرق وأمراض مزمنة.
•••
الضجة صوت والهمسة صوت! وشتان الفرق بين الاثنين. عرفت لماذا اختار الإنجليز كلمة noise تعبيرا عن الضجة، فالكلمة مشتقة من كلمة Nausea اللاتينية وتعنى «غثيان أو دوار». وبالفعل يشعر بعضنا بالغثيان وهو يتألم ويغلى مستمعا ومتابعا لسباقات الدراجات البخارية عند الفجر. الشعور نفسه، الغثيان والدوار نشعر به فى مفارق الطرق عندما يقرر مئات السائقين إطلاق نفير سياراتهم وتبادل الشتائم فى آن واحد وبأعلى «صوت».
•••
عرفت مدنا الضوضاء فيها أسوأ من ضوضاء القاهرة. لاجوس اسوأ، وكذلك نيروبى ومدينة المكسيك ودلهى القديمة. وعرفت مدنا كانت هادئة مثل مدينة بكين عندما كانت الدراجات الهوائية أداة النقل الوحيدة تقريبا بينما كانت هونج كونج وطوكيو تعجان بالضجة، وعرفت روما فى الستينيات هادئة وأعرف دبى وجنيف ما تزالان مدينتين هادئتين.
•••
تغيرت سلوكيات القاهريين بسبب تلوث بيئة مدينتهم. تراكم القمامة ساهم فى بعض سلوكياتهم. السحابات السود آذت عيونهم وخنقت أنفاسهم. زوال الأرصفة يحضهم على كره مدينتهم. أما الضوضاء فرفعت نبرة أصواتهم ودفعتهم إلى الصراخ ليسمعهم الآخرون. كلهم يصرخون. تخلى الناس عن فضيلة الصوت الخفيض.
•••
زحفت الضوضاء فاختل توازن السمع والنطق. يكاد الناس لا يتبادلون الأحاسيس إلا بالصراخ وأحيانا مصحوبا بالعنف. أين راح الهمس؟ بدونه ستفقد الإنسانية كلمات لا تقال جهرا بل لا تُقال إلا همسا. نسينا أن الهمس هو الذى صاغ العبارة الرائعة والصادقة «الأذن تعشق قبل العين».