لا يتوقف نجاح جولات التفاوض بين السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرئيلية على طبيعة الحكومة الائتلافية الإسرائيلية فقط كما يتصور الكثير من العرب. فالتعنت الإسرائيلى يرتبط بسبب هيكلى ومؤسسى يمتد إلى طبيعة الدولة الإسرائيلية ذاتها التى تجمع فئات بشرية مختلفة سياسيا وثقافيا ودينيا لكنها تشترك فى حد أدنى من التوافقات فى شأن علاقاتها بالعرب.
رغم اختلاف الإسرائيليين حول أمور داخلية جوهرية كتعريف من هو اليهودى أو حول وضع دستور أو تعيين حدود للدولة، فإن هناك ما يعرف بالإجماع أو المشترك الصهيونى فيما يخص علاقة الإسرائيليين بالعرب. وهذا الإجماع تتوافق حوله الغالبية العظمى من القوى السياسية (التى يطلق عليها تيارات يسارية ويمينية ودينية)، ويتضمن تعزيز أمن الدولة وضمان تفوقها على العرب، البقاء على حالة العداء للعرب والقضاء على أى مقاومة مسلحة لإسرائيل، واستمرار التحالف مع القوى الكبرى. وهذه المشتركات تتماشى، فى واقع الأمر، مع الطبيعة الاستعمارية للمشروع الصهيونى الذى قام على أساس تهجير الجماعات اليهودية من جميع أنحاء العالم واستيطانهم فى فلسطين بعد طرد أهلها. ولا يخضع جوهر هذه المشتركات، فى نهاية المطاف، لعمليات المساومة والابتزاز التى تتبادلها القوى المشاركة فى الائتلافات الحكومية عشية اتخاذ القرارات المهمة.
وما نشوء التيارات اليسارية واليمينية والدينية إلا إحدى الوسائل التى لجأت لها الصهيونية فى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين لاحتواء الجماعات اليهودية المختلفة فى أوروبا والتى كانت المصدر الأساسى للهجرة والاستيطان. أما حالة العداء فهى شرط ضرورى لاستمرار الدعم الخارجى السخى الذى بدونه ما كان من الممكن أن تنجح الحركة ولا أن تستمر الدولة.
ولم يغير الاجماع الصهيونى جوهر قناعاته الأساسية فى شأن علاقته بالعرب والتسوية السلمية مع الفلسطينيين، كما حدث من أطراف الصراع فى جنوب أفريقيا أو ايرلندا مثلا. فقبل 1948، كان الفارق بين التيارات الصهيونية هو الفارق بين من يطالب بأن يترك العرب ضفتى نهر الأردن (أى فلسطين والأردن) (كما نادى اليمين الصهيونى)، وبين من يطالب بأن يترك عرب فلسطين فقط (اليسار)، أى لم يكن مطروحا لدى الحركة فى ذلك الوقت اقتسام فلسطين لسبب أساسى هو أن الحركة قامت على أساس إبادة الآخر أو تهجيره.
وبعد الثمن التى دفعته إسرائيل جراء الانتفاضة الأولى ثم انهيار الاتحاد السوفييتى، جاءت مرحلة أوسلو وجاء معها اعتراف إسرائيلى، لأول مرة، بوجود منظمة التحرير كممثل للشعب الفلسطينى وحديث عن تسوية لم تتحقق أبدا، تقوم على إسقاط خيار المقاومة بالكامل (أو نبذ الإرهاب أو العنف كما تسميه إسرائيل) واعتراف المنظمة بإسرائيل وتنازلها عن ميثاقها وقبولها حكما ذاتيا على أجزاء من أراضى 1967 مع فصلها بمئات من المستوطنات اليهودية وآلاف الأميال من الطرق الالتفافية ومئات من نقاط التفتيش. وفى نهاية أوسلو (مباحثات كامب ديفيد 2000) طلب من الفلسطينيين التنازل عن حقوقهم فى شأن قضيتى اللاجئين والقدس مقابل دولة بمواصفات خاصة، أى بلا سيادة حقيقية على الأرض ولا مع الخارج، وبمرفأ ومطار وجهاز شرطة.
وفى ظل تعاظم الخطر الديموغرافى على الإسرائيليين نظرا لتزايد أعداد الفلسطينيين فى الضفة والقطاع وداخل إسرائيل ذاتها وبالنظر إلى نتائج الانتفاضة الثانية ثم أحداث سبتمبر، وصل الإجماع الصهيونى إلى حل يتعامل مع هذا الخطر الديموغرافى تسيطر إسرائيل بموجبه على أكبر مساحة من الأراضى الفلسطينية بأقل عدد ممكن من السكان العرب، وذلك بإنشاء «دولة» فلسطينية على أقل مساحة ممكنة من الأرض وأكبر عدد من الفلسطينيين، وبشرط أن تكون منزوعة السلاح وبلا سيادة، وبدون التخلى عن معظم المستوطنات ولا عن القدس، وفى ظل وجود جدار للفصل يضم إلى إسرائيل نحو 9.5 فى المائة من أراضى الضفة حسب تقرير المنظمة الحقوقية الإسرائيلية «بتسيلم» عام 2005. ويتم هذا بتبادل أراضٍ بين الطرفين: تضم إسرائيل أراضى من التى احتلت عام 1967، أى مستوطنات الضفة، مقابل ضم الدولة الفلسطينية أراضى من إسرائيل يعيش فيها مئات الآلاف من عرب 1948. وهذا حل عنصرى تطهيرى لا يأتى على حساب اللاجئين فقط وإنما أيضا على حساب عرب 1948 والضفة والقطاع معا.
ولهذا الحل خطورة أخرى جوهرية وهى ربط التسوية باعتراف العرب بيهودية إسرائيل. والخطورة هنا ليست فى الأضرار التى ستلحق بالعرب فقط وإنما لأن الحل يتناقض كلية مع النموذج المستقر للدول القائم (على الأقل من الناحيتين الدستورية والمؤسساتية وبعد قرون من الحروب الدينية فى أوروبا) على أساس غير دينى.. فقد يفتح هذا الحل الباب أمام تيارات أخرى فى المنطقة للمطالبة بدول دينية أو مذهبية خالصة، إسلامية أو مسيحية أو درزية.
ولا يمكن لهذا الاجماع الصهيونى أن يؤدى إلى حل وسط تاريخى كالذى تحدث عنه نتنياهو مؤخرا، وهو لايمثل تنازلات إسرائيلية كما قد يتصور البعض، وإنما يمثل حلولا لفشل السياسات الإسرائيلية فى إخضاع العرب وطردهم فى ظل تصاعد المقاومة الفلسطينية. وهو أيضا المخرج الإسرائيلى لفشل الدعاية الإسرائيلية التى حاولت لعقود طمس هوية الشعب الفلسطينى وترويج الصراع فى الخارج على أنه رفض عربى لتقاسم الأرض ورغبة عربية للقضاء على الإسرائيليين. وهناك دور فى هذا الأمر لثورة الاتصالات والإعلام ونقل صور انتهاكات حقوق الإنسان وتعاظم دور الجاليات العربية فى الخارج احتجاجا على اعتداءات إسرائيل.
وأخيرا هناك عامل آخر يأتى من الجانب العربى للأسف ويمنع تزعزع هذا الاجماع بل ويدفعه إلى التمسك بأبجدياته وهو غياب اجماع عربى مضاد فى شأن التعامل مع الإسرائيليين. فالعرب غير متفقين على التسوية ولا هم قادرون على الحرب فى ظل وجود حكومات رهنت نفسها بالخارج أكثر من الداخل. ولهذا لم يستطع العرب الدفاع عن الحل الوسط التاريخى الذى تحتاجه المنطقة الذى على المفاوض العربى التمسك به، الذى يمتد إلى جوهر الصراع، ويستهدف وقف اختراق إسرائيل للقانون والمواثيق الدولية وينزع عنها صفتى العنصرية والتوسعية ويضمن الاعتراف بالحقوق الفلسطينية، ودفع تعويضات عن كل الانتهاكات التى ارتكبت.
وحدة الاستقواء بالشعوب العربية (عن طريق وجود مؤسسات برلمانية وتنفيذية ورقابية حقيقية وانتخابات فعّالة وحرة ونزيهة)، قادر على ضمان وجود نظم حكم عربية تعمل لمصالح شعوبها وسياسات خارجية قوية ومؤثرة، تدفع الإسرائيليين دفعا إلى التنازل والاعتدال فى مواقفها. فالقوة لا يوقفها إلا قوة مضادة لها.