أخيرا تحرك قارب السياسة الخارجية المصرية. دليلنا على أنه تحرك واضح لكل من يتابع تطورات السياسة الخارجية المصرية فى الآونة الأخيرة، هو الزيادة الملموسة فى عدد مرات العتاب المتبادل بين مصر وعدد متزايد من الدول، بما يعنى أن مصر اصبح لها سياسات ليست بالتأكيد متطابقة مع سياسات دول عظمى ودول إقليمية، يعنى أيضا أن السياسة الخارجية المصرية بدأت تتحرر وبتدرج متسارع من آثار الركود الطويل، الذى دام عقدين أو أكثر. تستطيع الآن أن تسمع أصوات فى محافل متعددة بثقة، ولو غير ناضجة بعد أو مكتملة، تحاول بها التعبير عن مواقف من قضية إقليمية أو دولية.
بدأ يتحرك قارب السياسة الخارجية المصرية رغم ما أصابه من وهن وما علاه من صدأ وما تخلله من ثقوب. رسى لسنوات مستلقيا على أحد جانبيه لا يتحرك، تضربه بدون رحمة الأمواج العاتية، تقتات على أعشابه المائية طفيليات لم تكن لتقترب منه فى سنوات عنفوانه، تنتصب على حوافه الكواسر تترقب صيداً سهلاً.
نسىينا فى غمرة الفرحة بقارب جاهز للحركة أن نتعرف على هوية الذين سوف يستقلونه أملاً فى أن يمخر بهم البحار والمحيطات. بكلمات أخرى نسينا أن نتوقف لنتعرف على أنفسنا، ولنسأل من نحن؟ تعرفنا على القارب وإن بصعوبة ولكن لم نتعرف على أنفسنا، ولا أظن أن القارب يعرفنا أو أنه لا يزال يذكرنا.
من الذى تغير، القارب أم نحن؟ كلانا تغير، تغير القارب، نحن أيضا تغيرنا. وأظن أننا تغيرنا بأكثر مما يعتقد الكثيرون أو يخشون أو يأملون. المصريون تغيروا، تغيرت أولوياتهم وتغيرت أمزجتهم وتغيرت تطلعاتهم وتغيرت أحلامهم وتغيرت أخلاقهم وسلوكياتهم. لم نعد نقبل بما كنا نقبل به، لم نعد نسامح ونسالم أو حتى نهادن، لم نعد نفخر بكثير مما كنا نفخر به. لم نعد نثق ثقة عمياء بالقادة. فرضت علينا هزائم لم يكن للشعب دور فيها، وحققنا انتصارات سلبوا لأنفسهم الفضل فيها. هذا الشعب الذى أراه أمامى وعشت فى وسطه السنوات الخمس الماضية لن يسمح مرة أخرى بهزائم تفرض عليه أو بانتصارات تسلب منه، لأنه مارس بنفسه قيادة السياسة وعرف وربما للمرة الأولى معنى الانتصار وتعرف على أسباب الهزيمة.
من نحن؟ نحن المصريون الجدد، نعيش فى إقليم يكاد لا يشبه فى كثير أو قليل الإقليم الذى عشنا فيه لعقود أو لقرون. نعيش فى عالم لم نعهده، ولم نعهد شبيها له من قبل. نعيش فى عالم بتوازنات قوى سياسية واقتصادية مختلفة. دولة واحدة من دول هذا العالم المختلف على الأقل قفزت قرنين فى خمسة وثلاثين عاما، ودولة عظمى قضت ثمانية أعوام على الأقل تحاول أن تتأقلم مع وضع جديد وجدت نفسها فيه، وضع أقل شأنا باقتصاد مأزوم، وقارة هيمنت لقرون واستعمرت وأذلت واستعبدت نراها الآن تهتز كورق الخريف فى مواجهة غزو سلمى من طلائع شعوب عانت وتعبت حتى خارت قواها فزحفت نحو دول فى الغرب والشمال تطالبهما بالعدل والمساواة.
•••
نحن، المصريون الجدد، طرف فاعل فى مرحلة ثورية يمر فيها النظام الدولى وعلاقات الدول والقوى الجديدة. الأمريكيون أيضا طرف فاعل فى هذه المرحلة الثورية، ولدى اعتقاد بأن الأقدار اخترعت باراك أوباما ليقود الشعب الأمريكى فى رحلة الهبوط من القمة إلى تحت القمة بقليل بأقل تكلفة بشرية ومادية ممكنة. لم يكن التغيير الذى وقع للسياسة الخارجية الأمريكية خلال ولاية أوباما سطحيا أو شكليا أو «شخصيا»، كان ولا يزال تغييرا جذريا وجوهريا فى أسس السياسة الخارجية الأمريكية بدءا بإعادة ترتيب أولويات أمريكا فى الخارج ونقل مراكز الثقل الاستراتيجى من مواقع تقليدية إلى مواقع جديدة إلى الانفتاح على كوبا وفى النهاية وضع خطة للانسحاب من الشرق الأوسط فيما يشبه الثورة على عقيدة فى السياسة الخارجية الأمريكية كان الظن أنها ثابتة كالدهر. لم يخطر على بال خبير فى العلاقات الدولية أن يوما سيأتى تعيد فيه واشنطن النظر فى مكانة الشرق الأوسط فى جدول اهتماماتها.
على الناحية الأخرى من العالم، كانت الصين الصاعدة صاروخيا نحو القمة تستعد لوضع سياسة خارجية أيضا مختلفة. أقصد بالاختلاف، ليس مجرد تبديل أولويات وتعديل أهداف، وإنما انتقال دولة من دبلوماسية «القناعة» والمراقبة عن بعد ورفض الاشتباك وعدم التورط فى نزاعات فى قارات بعيدة، إلى دبلوماسية التوسع وتشييد القواعد وتشجيع المواطنين على استيطان اراضى جديدة ونشر الثقافة التقليدية الصينية والتغلغل فى أعماق المجتمعات الأجنبية. لم يكن ممكنا أن تواصل الصين ممارسة علاقاتها الدولية بسياسة خارجية وضعت فى أعقاب سقوط الشيوعية ولغرض تهيئة البلاد لنقلة أيديولوجية وسياسية. تمت النقلة الداخلية واختلف الشكل الخارجى وأصبح ضروريا وضع سياسة خارجية تناسب المرحلة الجديدة. مرحلة تثبيت الدور وممارسة مسئوليات القيادة الدولية.
فى الحالتين، حالة أمريكا ــ «أوباما»، وحالة الصين ــ «تشى»، عبأت مراكز البحث والجامعات والعقول المتخصصة استعدادا لصياغة سياسة خارجية تناسب عصر الثورة فى العلاقات الدولية، وتستطيع التعامل مع بيئة إقليمية مختلفة، وتقرر فى الصين تكليف مؤتمر قومى ينعقد على امتداد عامين كاملين وتشترك فيه كل القوى والتيارات والمصالح فى الصين لغرض وضع المعالم الرئيسية لهذه السياسة الخارجية.
ثم اكتشفنا أن كوبا قامت بعمل مماثل أثناء الاستعداد لمقابلة انفتاح أوباما عليها، ونعرف الآن، وبالتحديد قبل أسبوع، أن حكومة اليابان قررت تشكيل مؤتمر قومى لوضع سياسة خارجية جديدة لليابان. لم يكن منطقيا أن تستمر اليابان تمارس سياسة خارجية صاغتها فى ظل الاطمئنان إلى حماية أمريكية مطلقة وفى ظل احتمالات مستحيلة بأن تنهض الصين قبل قرن أو قرنين آخرين.
أمريكا والصين، وكوبا واليابان وها هى الهند تنظم جهودها للحاق بتطورات الثورة الناشبة فى العلاقات الدولية، تابعت باهتمام صعود نارندرا مودى من حاكم ولاية جوجارات إلى زعيم ثانى أكبر دولة فى العالم. رأيناه يتقدم بجسارة وإصرار لينافس الصين فى أفريقيا، باعتبارها ما تزال أهم مورد للمواد الخام والحليف المنطقى لدولة هندية تحلم بالتوسع شرقا والسيطرة على ممرات مائية حيوية لمستقبل الامبراطورية الصينية ومشروع أمبراطورية هندوستان حلم الرئيس مودى وقادة حزبه.
•••
دول كثيرة، كبيرة وصغيرة، اكتشفت أن السياسة الخارجية التى تمارسها لم تعد تصلح للتعامل مع عالم اختلف. روسيا تمارس الآن سياسة خارجية مختلفة وكذلك السعودية وقطر والامارات جميعها تبدو بفضل التغير فى سياساتها الخارجية دولا غير التى عهدناها. راحت معظم هذه الدول تبحث عن وسيلة ناجعة لوضع سياسة خارجية جديدة تناسب العصر ونوعية مشكلاته وقضاياه وأخلاقياته. أظن أنها استقرت على أن السياسة الخارجية صارت لابد أن تستجيب لمصالح وتوصيات واجتهادات مراكز البحوث والجامعات ورجال الأعمال ومؤسسات المجتمع المدنى وبخاصة بعد أن أصبح عنصرا مؤثرا أبلغ تأثير فى السياسة الخارجية ومتأثرا بها كما هو ملحوظ فى مصر خاصة، وكذلك فى الهند وروسيا ودول أمريكا اللاتينية.
ربما كان اكتشافنا لأهمية المجتمع المدنى فى صنع وتطوير منظومة السياسة الخارجية هو السبب وراء الدعوة، التى توجهنا بها، فى سلسلة مقالات نشرت قبل شهور فى نفس هذه الصفحة، إلى المجلس المصرى للشئون الخارجية ليتقدم الصفوف ويتولى صياغة مشروع الدعوة والوثائق الضرورية لإقامة مؤتمر مصرى عام يضع سياسة خارجية لدولة اختلفت شكلا ومضمونا ودستورا. دولة تعيش فى عالم تبدلت فيه معايير القوة وتوازناتها وفى إقليم تغيرت أغلب معالمه، دولة يسكنها شعب«اكتمل تسيسه» وها هو يؤكد كل يوم أنه اختلف ولن يعود كما كان.
انتهز فرصة كتابة هذا المقال، وفرصة إشارة رئيس الدولة فى خطابه الأخير إلى ما حققته سياسته الخارجية وفرصة تشكيل مجلس إدارة جديد للمجلس المصرى للشئون الخارجية» الذراع المدنية لهيكل السياسة الخارجية المصرية» وفرصة قرب انعقاد المؤتمر السنوى لهذا المجلس، انتهز كل هذه الفرص لأكرر الدعوة ليباشر المجلس المصرى أهم مهامه على الإطلاق وبخاصة فى المرحلة الراهنة وهى التدخل بالضغط والتوصية والنصيحة فى عملية صنع سياسة خارجية مصرية مختلفة لدولة مختلفة فى بيئة مختلفة، متخليا عن تواضعه الجم وممتنعا عن أسلوب إصدار البيانات ومتحملاً مسئولية توليد أفكار وصياغة أوراق عمل وطرح بدائل تساعد فى عملية صنع السياسة الخارجية.
اقتباس
أكرر الدعوة ليباشر المجلس المصرى أهم مهامه على الإطلاق وبخاصة فى المرحلة الراهنة وهى التدخل بالضغط والتوصية والنصيحة فى عملية صنع سياسة خارجية مصرية مختلفة.