عندما اتخذ الرئيس الراحل أنور السادات سياسة الانفتاح الاقتصادى بعد ربع قرن تقريبا من اتباع مصر السياسات الاشتراكية المعتمدة على إدارة الدولة للموارد والأصول وتأميمها للملكية الخاصة فى مقابل التعهد بتوفير الرعاية الصحية والتعليمية والاجتماعية والتنموية لعامة الناس، فإنه قد فطن إلى أن ذلك لا يمكن أن يتم فى ظل إدارة سياسية تعتمد على حزب واحد محتكر للسياسة، ولأنه كان يعلم جيدا ماذا يريد حيث الاتجاه غربا وتوديع المعسكر الشرقى بلا رجعة قبل إتمام الصلح مع إسرائيل والحصول على دعم أمريكى هو الأكبر فى تاريخ الجمهورية التى أصبحت ثانى أكبر متلقى للمعونة الأمريكية، فإنه قد قرر تحريرا جزئيا للسياسة عن طريق تجربة المنابر التى قادت فى غضون سنوات قليلة إلى تعددية شكلية ومنها إلى أخرى مقيدة. قام السادات أيضا بإنشاء مجلس الشورى ليكون غرفة ثانية للبرلمان المصرى، صحيح أنها كانت غرفة استشارية بحتة غير تشريعية ولا رقابية، إلا أنه كان يعلم أن للعبة الاقتصادية الجديدة أصولا وقواعد سياسية لابد من اتباعها.
كان هذا التوقيت هو النصف الثانى من السبعينيات، حيث لم تكن الديمقراطية وموجاتها قد ضربت بعد معظم دول العالم الثالث، فكانت كوريا الجنوبية ومعظم الدول الآسيوية وأوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية تحت أشكال مختلفة من الحكم السلطوى العسكرى، فكانت خطوة السادات بمعايير العصر سباقة وملائمة للتحول الجديد. قطعا لم تنجح التجربة، فقد كان اقتصاد «السداح مداح» حيث لا قواعد ولا معايير ولا قوانين منظمة، فتحول الأمر من اقتصاد السوق المفتوح إلى اقتصاد العزبة المفتوحة، حيث تحولت الدولة من الإدارة إلى السمسرة وتحول الحزب من صنع السياسات إلى تسيير السياسات عبر شبكة علاقات معقدة نشأت بين العوائل السياسية ورجال البيزنس كلا بحسب قدرته على عقد الصفقات وتقديم التنازلات وتسويق الخدمات للسلطة والنظام لا للشعب!
بعد سنوات قليلة على تولى مبارك الحكم، بدا أنه لم يكن يعى أى دروس أو خبرات، فقد حافظ على هذا النظام السياسى المختلط مستمرا فى السماح بسياسات السوق غير المقيدة بأية ضوابط محولا الدولة إلى سمسار اقتصادى كبير! فشل مبارك فى التسريع بعملية تحرير السياسة، وأصر على الحفاظ عليها «مقيدة» وشكلية لسنوات طويلة حتى انهار نظام حكمه على النحو الذى نعرفه!
***
نحن الآن فى ٢٠١٦، حيث تغيرت معطيات العصر، فمعظم دول العالم حتى النامى منها تشهد نسخا متباينة من عملية تحرير السياسة والاقتصاد معا مع التزام الدولة بمسئولياتها تجاه المواطنين. انتشرت موجات التحول الديمقراطى فى دول العالم الثالث، تحررت السياسة من قبضة المؤسسات العسكرية فى أمريكا اللاتينية وشرق أوروبا والغالبية العظمى من الدول الآسيوية نحو حكم وإدارة أكثر مدنية فى ظل تفاهمات مختلفة مع المؤسسات الأمنية على عملية التوازن والتوزيع والرقابة. بل وحتى محيطنا الإقليمى وبيئتنا الداخلية قد شهدت ثورة طالبت بالديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية حتى لو لم تستطع تشكيل نظام حكم لتحويل هذه الشعارات إلى سياسات.
وبالتالى فإن عملية تحرير الاقتصاد ورفع الدعم عن المحروقات بهذا الشكل الصادم الذى جرى يوم الخميس ٣ نوفمبر، لابد أن تناقش فى سياق أعم بكثير من السياق الذى تجرى المناقشات فيه الآن! هناك تفاصيل فنية لن أخوض فيها لعدم التخصص، لكن هناك تفاصيل سياسية أعم لابد من الالتفات إليها لمصلحة الوطن قبل أى شىء!
التفصيلة الأولى أن نشر الإشاعات وأسلوب الدعاية المعنوية لن تفيد أبدا فى هذا السياق! المصارحة والمكاشفة بالوضع الاقتصادى وتحديد معنى «التضحية» المطلوبة من المواطنين لابد منه فى ظل هذه الظروف! اللعب على فكرة «تضحية» المواطن لصالح الوطن لن تمر بسهولة هذه المرة، فاللعبة أصبحت مكررة على نحو مخجل خلال السنوات الثلاث الماضية على نحو فهمها العالم والجاهل، الغنى والفقير، المؤيد والمعارض!
أما الثانية، فهى أن سياسة تحرير الاقتصاد ما لم يواكبها سياسات ضمان اجتماعى تضمن توفير الخدمات التعليمية والصحية والضمانات الاجتماعية الأخرى لتعويض تآكل القدرة الشرائية للطبقات المتوسطة فأقل، فستكون سياسة التحرير هذه بمثابة إعلان فشل منقطع النظير للنظام لأنه لا يمكن أن تقوم بتخفيض مستوى دخول المواطنين بهذه المعدلات العالية ثم تتركهم مع خدمات تعليمية وصحية متهالكة وبائسة وتتوقع منهم صبرا! وبالتالى فلو لم يكن لدى السلطة رؤية لتنفيذ إصلاحات حقيقية لسياسات التعليم والصحة والارتقاء بهما خلال فترة وجيزة فستكون العواقب وخيمة!
أما الأخيرة والأهم فهو أنه لا يمكن أن تقوم بتحرير الاقتصاد دون أن تقوم بتحرير السياسة فى مصر! إذا أردت أن «تفطم» المواطن من الاتكاء على ثدى الحكومة، فلابد أن تفتح البيئة السياسية لتشهد تنافسا حقيقيا بين الأحزاب وتراجع لقبضة الأمن على السيطرة على السياسة، مع مراجعة كل القوانين المشكوك فى دستوريتها وفى مقدمتها قانون التظاهر، فضلا عن البدء الفورى فى اتخاذ خطوات عملية وملموسة وسريعة فى الإفراج عن المعتقلين السياسيين ـ أيا كان المسمى القانونى لهم. ومراجعة ملف الممنوعين من السفر وبدء صفحة جديدة للتعامل مع منظمات المجتمع المدنى! تحرير الاقتصاد وإغلاق السياسة فى أوضاع اجتماعية واقتصادية وسياسية هشة كالتى فى مصر الآن من شأنها أن تؤدى إلى المزيد من التدهور والتراجع على كل المؤشرات!
الموضوع إذن ليس مجرد تعويم للعملة المحلية أو رفع الدعم عن المحروقات، قد تكون هذه تفاصيل فنية «لابد منها» كما يدعى البعض، لن أرفض هذا المنطق ولن أقبله وفى انتظار اتضاح الرؤية، لكن الموضوع إدارة سياسية كاملة لابد أن تقوم على الكفاءة والشفافية والمحاسبة والرقابة والتوازن بين السلطات وكلها أمور تفتقدها مصر بشدة الآن! بل ويزيد على غياب كل المعايير السابقة حالة الاحتقان المستمرة وانعدام الثقة وتهافت تصريحات المسئولين واستهزاءهم الواضح بالرأى العام وكلها أمور غير مبشرة!
اللجوء التقليدى إلى استخدام الإعلام كقنبلة دخان للتغطية على السياسات لن تمر كل مرة بأمان، وعدد الذين يفهمون لعبة الإعلام يزداد يوما بعد يوم بما فيهم هؤلاء المؤيدون للنظام الذين لم يكن محرك تأييدهم للسيسى كراهية الإخوان بقدر ما كان الوعد الاقتصادى والذى بدا أنه يتبخر الآن! كذلك فإن المواطن قد أدرك بوضوح أن «الوطن» هو باختصار كرامة، عدل، القدرة على توفير حد أدنى من المعيشة الكريمة، حقوق وواجبات ومسئوليات وتمثيل نيابى، وليس مجرد سلسلة من التضحيات من أجل لا شىء!
***
المطلوب الآن وبشكل عملى ولمصلحة الجميع وبعيدا عن أى مثاليات هو تحرير البيئة السياسية بالتوازى مع تحرير الاقتصاد من أية قيود، فتح باب التعددية السياسية لاستيعاب حالات الغضب ولفتح المجال أمام بدائل للسياسات العامة التى تبدو عاطبة تماما وعاجزة عن إصلاح الأوضاع العامة فى المحروسة، فى مصر لم تعد هناك بدائل كثيرة متاحة ولا مناورات كثيرة فاعلة، إما الآن أو الغموض التام بشأن المستقبل!