حصل الرئيس دونالد ترامب فى انتخابات 2020 على أصوات 70 مليون أمريكى، أو ما يقرب من نصف أعداد المصوتين، فى انتخابات هى الأكثر استقطابا فى التاريخ الأمريكى.
ويطرح خروج ترامب المرتقب من المشهد السياسى الأمريكى أسئلة كثيرة يأتى على رأسها ما يتعلق بمستقبل الحزب الجمهورى.
ومنذ تأسيسه على يد منشقين من الحزبين الديمقراطى واليمينى عام 1854، نتيجة اعتراضهم على استمرار نظام الرق والعبودية القائمة آنذاك، ورغبتهم فى الحفاظ على الاتحاد الأمريكى فى وجه نداءات الانفصال خاصة من ولايات الجنوب، أصبح الحزب الجمهورى من أهم وأعرق الأحزاب حول العالم.
يضم الحزب منذ ستينيات القرن الماضى تيارات فكرية متنوعة، صاحبت إقرار قوانين الحقوق المدنية التى منحت حقوقا مساوية للسود، أهمها المحافظون الاقتصاديون (فيما يتعلق بالضرائب وقطاع الأعمال) والمحافظون الاجتماعيون (ممن يقفون وبشدة مع شكل العائلة التقليدى) والمحافظون الجدد (ممن لا يمانعون استخدام القوة والحروب الخارجية)، ويضم كذلك المعادين لدور متضخم للحكومة الفيدرالية. وتاريخيا تبنى الحزب الجمهورى أفكارا وقيما تقليدية محافظة سواء الاجتماعى منها أو ما يتعلق بالسياسات الاقتصادية، فى الوقت الذى تبنى فيه سياسة خارجية تدعم التدخل الأمريكى فى الشئون العالمية ولا تمانع من استخدام القوة والسلاح لخدمة المصالح الأمريكية.
***
من أوجه ذكاء ترامب السياسى إدراكه أن أمريكا والعالم تمر بلحظات غير تقليدية لا يجوز معها اتباع أساليب تقليدية سواء فى الحملات الرئاسية أو فى طريق مخاطبة الناخبين، وفاز ترامب لنجاحه فى تحصين نفسه ضد أى أخطاء أو سقطات، يقول ما يقول، ويخطئ ما يخطئ وذلك كله بدون حساب. كذلك أدرك ترامب أن ثلثى الأمريكيين يرون أن بلادهم تسير فى الاتجاه الخاطئ، وأن هناك حاجة لكى يصبح مرشحا مختلفا من خارج منظومة واشنطن التقليدية، ويرتبط بهذه النقطة حالة ترهل وضعف وعدم ثقة واسعة من المواطنين فى المؤسسات الحزبية القائمة.
تقرب ترامب من العمال الغاضبين مما آل إليه مصيرهم بسبب العولمة ونقل الكثير من المصانع لخارج الولايات المتحدة توفيرا لتكلفة العمالة المرتفعة داخل أمريكا، أرضى ترامب هؤلاء بوعدهم بإلغاء اتفاقيات التجارة الحرة وإعادة تشغيل المصانع وإعادتها لأمريكا.
نجح ترامب لإدراكه بعدم أهمية الإطار الأيديولوجى لأغلب الأمريكيين مقابل إدراكه اهتمامهم الكبير (مثل بقية شعوب العالم) بهويتهم وانتمائهم الدينى والاثنى والعرقى.
سيترك ترامب الحزب الجمهورى وقد تملك أنصاره القلق مما يرونه تغييرا سكانيا مقصودا خلال نصف القرن الأخير، والذى جاء نتاجا لهجرة ما يقرب من 60 مليون شخص من دول أمريكا الوسطى الكاثوليكية بالأساس وآسيا غير المسيحية، لجعل أمريكا ومجتمعها أكثر تنوعا واختلافا عما ألفه الكثير من الأمريكيين.
***
ومنذ وصوله للحكم قبل أربع سنوات، زلزل ترامب منظومة الحزب الجمهورى كما عرفها الأمريكيون لأكثر من 130 عاما، وعلى العكس من قيادات وتوجهات الحزب الجمهورى، عارض ترامب التدخلات العسكرية الخارجية، وعلى العكس من التراث الجمهورى الداعم للتحالفات العسكرية، آمن ترامب بعدم وجود ضرورة لبقاء الناتو، وعارض ترامب نهج الحزب، ودعا دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية للاستقلال العسكرى عن الولايات المتحدة.
من أبرز الرؤساء الجمهوريين ممن شكلوا فلسفة وهوية الحزب يمكن أن أشير إلى ثلاثة يمثلون النقيض التام لترامب، أبراهام لينكولن، الذى يعرف بمحرر العبيد، هذا فى الوقت الذى تبلغ فيه شعبية ترامب بين السود أقل من 10%، ويتبنى هو خطابا عنصريا إقصائيا بامتياز. تيودور روزفلت، الذى كان مثقفا وجنديا ودبلوماسيا ومحافظا على البيئة، بينما ترامب يعرف بإنكاره للاحتباس الحرارى، ولا يعرف عنه نهمه للقراءة على الإطلاق. والرئيس الثالث هو رونالد ريجان الذى كان له دور بارز فى إنهاء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتى، فى الوقت الذى لا ينكر فيه ترامب ولعه بطريقة حكم الرئيس الروسى فيلاديمير بوتين، وبقيادته الحكيمة للفاشية الروسية البوليسية.
ورغم ذلك وحد ترامب الجمهوريين وراء قيادته لأربع سنوات، دعم ترامب اصطفاف الجمهوريين معا ونجح فى تعيين ثلاثة قضاة فى المحكمة العليا وهو ما يعد بلا جدال أهم إنجازاته التى سيتذكرها له الجمهوريون على مدى السنوات والعقود القادمة.
***
قبل أربع سنوات فاز ترامب بالبيت الأبيض بسبب غضب وانقسام الأمريكيين، وترى مجلة الإيكونيميست البريطانية أنه وبعد أربع سنوات فى الحكم، يترك ترامب أمريكا أكثر غضبا وأكثر انقساما.
«أمريكا أولا» و«لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى» و«ضرورة بناء أسوار وحواجز لمنع الهجرة» كلها شعارات لم يخترعها ترامب، بل هى موجودة، ولم تختف منذ تأسيس الدولة الأمريكية، ولن تختفى حال هزيمة ترامب.
وزاد ترامب من حجم وهوة الانقسام، وجعله مستمرا متوهجا حتى مع التعرض لجائحة حصدت أرواح ما يقرب من ربع مليون أمريكى، وأصابت ما يقرب من 9 ملايين آخرين.
ومثل ترامب وسيطرته على الجمهوريين بصورة كاملة بما فيها تيارات الحزب التقليدية واليمينية المحافظة، شهادة ميلاد جديدة له، إلا أن خروج ترامب من المشهد يهدد بنهاية الحزب، ربما لا يتوقع أن تُسفر هزيمة ترامب المحتملة عن اندثار التيار الفكرى الذى عبر ترامب عنه وامتطاه خلال السنوات الأربع الأخيرة. سيجدد هذا التيار نفسه من خلال فرز عدد من الزعامات، التى دعمت ترامب بشدة، واقتربت منه، واستفادت من كشفه لطبيعة هذه التيارات اليمينية والتعبير الصريح عن هواجسها وتفضيلاتها.
ويبقى عدد من الساسة الجمهوريين ينتظرون خروج ترامب من المشهد لبدء خطوات البحث عن زعامة تيار سيصارع للبقاء. شخصيات مثل السيناتور توم كوتن، والمندوبة السابقة بالأمم المتحدة نيكى هيلى، والسيناتور تيد كروز، ووزير الخارجية مايك بومبيو، والسيناتور ماركو روبيو، وبالطبع نائب الرئيس مايك بنس، ينتظرون طى صفحة ترامب ليبدأ التنافس فيما بينهم على تجديد الترامبية لتناسب غياب شخصية ترامب الطاغية.
كاتب صحفى متخصص فى الشئون الأمريكية ــ يكتب من واشنطن.