مما تعلمته من الأستاذ الفاضل والعالم الجليل، د.أحمد يوسف أحمد، الذى لم أزل أستمتع بالقراءة له كل يوم خميس على صفحات الشروق، فكرة «النبوءة الهادمة لذاتها» (self-defeating prophecy) حين كان يدرس لنا مقرر العلاقات الدولية فى عام 1990. وقد تبين لى أن واحدة من آليات صنع القرار المنضبطة فى الغرب تقوم على دراسة هذه الفكرة وغيرها حتى لا تؤدى استراتيجية ما نتائج تتناقض مع الهدف المعلن منها مثلما فعل جورج بوش حين أعلن أن حرب العراق ستكون مقدمة لإيجاد نموذج لديمقراطية يمكن أن تتكرر فى الدول العربية الأخرى؛ فإيجاد، بحماقة شديدة، سلسلة من ردود الأفعال المضادة من الدول المحيطة بالعراق التى عملت بكل كد على ألا ينجح نموذج الديمقراطية فى العراق؛ لأنه لو نجح لسعت الولايات المتحدة لأن تجبر دولا أخرى مثل سوريا وإيران والسعودية على أن تسير فى نفس الاتجاه. ومن هنا فقد تبنى استراتيجية هادمة لذاتها. والفكرة ببساطة أن الإنسان قد يحدد هدفا أو يتوقع حدثا ولكنه يقول من الكلمات أو يأتى من التصرفات ما يكون سببا مباشرا فى امتناع الحدث عن الوقوع أو استحالة الهدف أن يتحقق. فوَضَعَ الإنسانُ الهدف، وقال كلاما أو أتى تصرفا، يعوق الهدف عن التحقُق. وعلى المستوى الشخصى يواجه أحدنا هذا الموقف بأن يريد أن يُبرزَ نُبلَ أخلاقِه بأن يروى للحاضرين قصصا عن خبرته فى البذل والعطاء وإغاثة الملهوف فيمتعضَ الحاضرون مما استمعوا إليه، فيكون كلامه قد هدم هدفه بل ارتد عليه سلبا. وهو ما أزعم أن الإعلام المصرى يفعله فى خطابه تجاه العرب.
ويبدو أن التكوين العلمى والثقافى للقائمين على الإعلام والفن فى مصر، لا يسمح لهم بتفهم النتائج غير المقصودة لما يتبنون من مقولات وما يرفعون من شعارات؛ فالنتائج غير المقصودة هذه تكون أخطر كثيرا مما يقصده المرء بما يقول. وهو ما يجعلنى أتذكر التوجيه القرآنى: «وقل لعبادى يقولوا التى هى أحسن، إن الشيطان ينزغ بينهم» أى أنهم غير قادرين على فهم ما هى النتائج غير المقصودة وغير المتوقعة لما يقولون لاسيما إن كان ما يقول المرء أصلا يقال فى إطار ما هو أسوأ.
وهكذا يقع بنا بعضُ المناضلين فى استوديوهات التليفزيون وعلى صفحات الجرائد فى هذا الفخ ويوجدون فجوة فى غير صالح مصر والمصريين بمبالغتهم فى تذكير الآخرين بـ«أفضالنا عليهم». وسأستدل على ما أدعيه فى هذا المقام بما سجلته من عبارات وردت على ألسنة بعض الفنانين والإعلاميين الذين شاركوا فى إحدى حلقات برنامج «البيت بيتك». وهى عبارات قيلت بهدف توضيح قيمة مصر وفضلها على العرب للمشاهدين المصريين والعرب، ولكن أحسبها كانت هادمة لذاتها. وهاهى بعض الاقتباسات مما قاله الحاضرون والمتصلون تليفونيا: «مصر أم العروبة»، «إحنا اللى بنأخد كل مشاكل الأمة العربية فى حضننا» و«إحنا اللى بندفع الثمن»، «إحنا الأفضل والأحسن»، «مصر الدولة العربية الوحيدة التى حصلت على جائزة نوبل»، «مصر الدولة المتحضرة اللى شالت هم كل حد»، «الفن المصرى هو اللى بيلم كل الناس دى»، «عندنا أهم فنانين وأهم مثقفين»، «إحنا هوليوود الشرق»، «إحنا الدور وإحنا المكانة»، «إحنا كل حاجة وهم ولا حاجة»، «إحنا ناس متحضرين جدا»، «مصر الوحيدة التى ذكرت فى القرآن»، «مصر هى أم الدنيا اللى أبوابها مفتوحة لكل الدنيا»، «إحنا مصر، إحنا الحضارة»، «كل العالم دى ما كانوش بنى آدمين»، «كان خيرنا عليهم»، «إيه الجزائر دى... إحنا نعرف الجزائر دى من حريمها»، «كل الكبار اللى فى الدول العربية كبار لأننا علمناهم»، «إحنا اللى حاربنا إسرائيل وانتصرنا عليها،» «لولا مصر كانت إسرائيل برطعت فى المنطقة من غير حد يوقفها عند حدها».
وفى مقال لكاتب كبير فى صحيفة يومية مصرية: «ارفع رأسك أيها المصرى.. فقد شاءت الأقدار أن تكون وارث حضارة، وصفها المؤرخ البريطانى «أرنولد توينبى» بأنها «لم تولد ولم تلد»، ولاتزال شواهد عبقريتها قائمة إلى اليوم فى «الأهرامات» و«المعابد» و«المومياوات»... ارفع رأسك أيها المصرى.. فقد شاءت المقادير أن هذه الدول ما كادت تستقل، وتشرع فى بناء دولتها الوطنية، حتى احتاجت خبرتك فقدمتها غير باخل، تشق الطرق وتبنى العمائر وتصوغ الدساتير والقوانين وتؤسس المحاكم.. وتدرب قوات الشرطة والجيوش، وتفتح المعاهد والمدارس والجامعات والمستشفيات، وتترك فى كل أرض عربية بصمة تدل على طبيعتك كشعب عاش طوال التاريخ يبنى ويعمر ويخضّر الأرض، ويصنع الخير والجمال والفرحة، حيثما حل».
انتهت الاقتباسات المصرية، تعالوا نرى كيف كانت مثل هذه العبارات هادمة للهدف منها. بمتابعة موقع البى بى سى وموقع العربية نت، نجد كيف علق بعض العرب على الخطاب الدعائى الإعلامى المصرى الذى لا يأخذ فى اعتباره النتائج غير المقصودة لشعاراته. أحد العرب من الجزيرة العربية: «كل العرب مع الجزائر بسبب نظرة المصريين الاستعلائية، أنا بأكره مصر من كل قلبى لأنهم فاكرين العرب بدو وهمج وهم المتحضرين مع أنهم شحاتين ونصابين»، شخص آخر: «يا ريت المصريين المغرورين يبطلوا غرور وتعالى عالغير»، فيرد عليه مصرى قائلا: «إلى الأخ صاحب التعليق رقم كذا إن مصر ستظل أم الدنيا وقائدة العرب رغم أنف الجميع، ومين اللى قال لك إن مصر فى ذيل الأمم هو مين العرب؟ هم مصر. وكانت وستظل إن شاء الله عالية بأبنائها العلماء والمثقفين ويروح واحد يجى عشرة هو مين مشرف العرب غير مصر؟».
ثم يرد آخر موضحا الفجوة بين صورة الذات عند المصريين وصورة مصر عند الآخرين، «أريد أن أرد على كلام فلان من مصر؛ وأقول له أين هو هذا الخير الذى أتت به مصر للعرب بحيث كلما تحدثتم تشيرون إليه وتقولون أن العرب يدينون به لكم؟ كما أقول له أين هى الوقفات الرجولية التى وقفتموها وأين هى تلك التضحيات من أجل العرب؟ فمصر لا يخفى على الجميع أنها أول دولة عربية اعترفت بإسرائيل وأقامت على ترابها سفارة لها، وبذلك تحصلون على مبالغ مالية من أمريكا مقابل ذلك. ومصر هى التى تحاصر غزة وتصدر الغاز والأسمنت لإسرائيل. هذا عار يا أخى، لقد ضحيتم على العرب وعلى فلسطين وليس ضحيتم من أجلنا».
وتستمر الدائرة المفرغة من الخطاب الاستعلائى المصرى الذى يفضى إلى خطاب استعدائى عربى، فتزداد الهوة وتزيد مساحة الغضب ونستمر نحن المصريين فى تكرار كلام أقرب إلى الحق لكنه يقينا فى موضع الباطل لأنه يفضى إلى عكس المتوقع أو المقصود منه. إن إعلاميينا بامتياز رفعوا الشعارات التى تأجج نار حقد أشقاء لنا فى ظل طبول الحرب الإعلامية دون أن يفكروا فى انعكاسها السلبى على مكانتنا بين أناس نزعم أننا نقودهم. ولكننا لا شك لم نعد فى موضع القيادة؛ فالقائد لابد أن يحظى باحترام وحب من يقود، إلا إذا كنا نقصد بالقيادة نوعا من أنواع «البلطجة» نفرض فيها أنفسنا على غيرنا، وحينئذ فلابد أنهم سيقاوموننا.
إن خطورة الإعلام أنه لا يُقابل بعقلية ناقدة ومدربة على رؤية الصورة من جميع جوانبها، فيصدق المصرى البسيط آخر ما يسمع وما يقرأ دون أن يتدارس مدى الاتساق الداخلى فى المعلومات أو يسمع حجة الطرف الآخر وفقا لمنطقه هو، فيعتبر أن كل من يخالفه فى الرأى أو المعلومة أو زاوية الرؤية يتعمد الإساءة إليه أو النيل من كرامته أو التآمر عليه. لو من درس مستفاد للقائمين على شئون الإعلام فى مصر: التزموا ما تعلمتموه فى كليات الإعلام وأقسام الصحافة من مهنية وحياد وحرص على استيفاء جوانب القصة الخبرية من جميع جوانبها، ولو كنتم وصلتم إلى مناصبكم على كراسى المذيعين والصحفيين بدون الحصول على درجات فى الإعلام والاتصال الجماهيرى، إذن فالعيب ليس فيكم، وإنما فيمن تسبب فى هذه السقطة التى ما كانت لتليق بمصر، وإن كانت هى متسقة مع سقطات كثيرة نعيشها فى عصر مصر التى «تتقدما بنا» دون أن ندرى.