من المعروف أن قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة، والذى مرّت ذكراه الـسبعون الأسبوع الماضى، رفضه العرب والفلسطينيون، لكن ما هو معروف، بنسبة أقل، أن العرب والفلسطينيين لم يقفوا كلهم ضد القرار، ويمكن أن نعدد جهتين بينهم، على الأقل، كانت لهما مصلحة فى قيام دولة يهودية: ملك الأردن عبدالله، الذى توصل إلى اتفاق سرى مع ممثلى الحركة الصهيونية يقضى بتقسيم أراضى فلسطين الانتدابية بينه وبين اليهود؛ والموارنة فى لبنان، الذين شعروا بمصير مشترك مع اليهود، كأقلية مسيحية فى محيط إسلامى، الأمر الذى أدى إلى توقيع اتفاق سرّى بين البطريرك المارونى وممثلى الحركة الصهيونية فى سنة 1946.
وبين الفلسطينيين الذين لم يعارضوا التقسيم، أبناء عائلة النشاشيبى ومؤيدوهم المُعادون لأبناء عائلة الحسينى الذين تولوا رئاسة المؤسسات الفلسطينية المهمة. كما تبنّى الشيوعيون الفلسطينيون موقف الاتحاد السوفيتى، الذى أيّد خطة التقسيم، لكن فى لحظة الحقيقة اختفى كل مؤيدى الخطة فى السرّ، أو على الأصح، سكتوا، ويبدو أنهم فضّلوا الانجرار وراء «الشارع» الغاضب، كى لا يخسروا شرعية سلطتهم، وأيضا كان لأعمال قتل وتهديد المتعاونين مع الصهيونيين تأثير فى موقف هؤلاء.
لقد كان قرار التقسيم فرصة تاريخية لحل النزاع لعدة أسباب: قرار بريطانيا بإنهاء الانتداب وتعهدها بأن يملأ لاعبون محليون (الفلسطينيون واليهود) الفراغ السياسى الذى سينشأ، وكما حدث فى فترة ما بعد انهيار السلطنة العثمانية، نشأت، مرة أُخرى، فرصة خلق وقائع جديدة على الأرض، كما أن حقيقة تعيين الأمم المتحدة لجنة تحقيق لمعالجة المشكلة شكلت ضمانة لأن يحظى الحل، الذى سيجرى التوصل إليه، بشرعية دولية. بالنسبة إلى الحركة الصهيونية، كانت الخطة جذابة بصورة خاصة لأنها ضمنت لها الحصول على أغلبية الأرض، على الرغم من أن السكان الفلسطينيين كانوا أكثر عددا بضعفين، وأغلبية الأراضى يملكها فلسطينيون. بالنسبة إلى الفلسطينيين، كانت الخطة فى الواقع أقل جاذبية، لكنها كانت أول مرة تقترح عليهم جهة دولية دولة مستقلة، غير تابعة للأردن.
لقد كان الرفض العربى ــ الفلسطينى خطة التقسيم خطأ، وأيضا تضييع فرصة، لأن الحل كان ممكنا. وعلى الرغم من الانقسام الداخلى الفلسطينى وتراجع شعبية الحاج أمين الحسينى بسبب تعاونه مع النازيين، فإنه بقى الزعيم المعترف به والشرعى للفلسطينيين، وكان قادرا على قيادة الأمور نحو قبول الخطة، لو كان فهم التغيرات التى طرأت على النظام الدولى وتعلم دروس الرفض الفلسطينى السابق (خصوصا مشروع بيل 1937)، لكان قبول الخطة أدى إلى تبنيها من المجتمع الدولى، وربما منع الحرب. لقد كان هذا أكبر تضييع فلسطينى للفرصة فى التاريخ.
يقلل المؤرخون الفلسطينيون من اعترافهم بخطيئة تضييع الفرصة. وقد كتب المؤرخ وليد الخالدى مقالا بمناسبة مرور 50 سنة على خطة التقسيم قال فيه إن «الخطة لم تكن صيغة تسوية قانونية، وأخلاقية، وعادلة، ومتوازنة، وبراغماتية، وعملية، كما كان يجب أن تكون». وتساءل كيف يمكن أن تكون الخطة عادلة وأكثر من نصف الأرض مُنحت لليهود، الذين شكلوا حينها أقل من ثلث السكان ويملكون 7% من الأراضى، بينما حصلت أغلبية السكان التى تملك أغلبية الأرض على 45% من الأرض.
فى المقابل، ادّعى فيليب مطر، وهو أمريكى ــ فلسطينى وكاتب سيرة المفتى، أن سياسة الحسينى كانت فاشلة، وأنه «عن غير قصد ساهم فى طرد الفلسطينيين من أرضهم». وكتب المؤرخ الإسرائيلى ــ الفلسطينى، مصطفى كبها، بمناسبة مرور 60 سنة على خطة التقسيم «أن الحاج أمين الحسينى فشل فى قراءة التغير الجوهرى الذى طرأ على الخريطة السياسية العالمية والإقليمية».
حتى المؤرخ إيلان بابه، المعروف بصورة عامة بتأييده قضية الفلسطينيين، كتب أن زعامة الحاج أمين افتقرت إلى «البراغماتية والقدرة على التقاط الفرصة التاريخية»، ولم يفهم أنه «بدلا من رفض العرض، كان من الأفضل أن يكون طرفا فى التسوية حتى لو كانت تمثل الحد الأدنى».
فى الغرف المغلقة وليس علنا، كان الفلسطينيون مستعدين للاعتراف بالخطأ الذى ارتُكب برفض خطة التقسيم. وبرز تخوف لدى الجانب الفلسطينى فى المحادثات التى جرت بين الإسرائيليين والفلسطينيين فى كامب ديفيد 2000، من أنهم قد يضيّعون فرصة تاريخية، كما ضيّعوها فى سنة 1947. وكان مهما ما فعله رئيس السلطة محمود عباس، عندما اعترف فى مقابلة أُجريت معه فى سنة 2011 بأن الفلسطينيين أخطأوا عندما رفضوا قرار التقسيم، لكنه أضاف: لا يمكن معاقبتهم على ذلك.
إن الاعتراف الفلسطينى بالخطأ التاريخى برفض خطة التقسيم هو الخطوة الأولى نحو خطة تقسيم مصغرة تستند إلى حدود مايو 1967، ولكن ليس كل الفلسطينيين مستعدين لذلك، والمشكلة أنه فى الجانب الإسرائيلى تحدث عملية معاكسة: يتخلى اليهود أكثر فأكثر عن خطة التقسيم، سواء لأسباب إيديولوجية، أو يأسا. إن الذكرى السبعين لخطة التقسيم هى مناسبة لنتذكر أنه حتى لو تغيرت حدود التقسيم فإن الفكرة لا تزال صالحة.