استراتيجيات كونية تزعجها توترات طائفية - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 8:24 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

استراتيجيات كونية تزعجها توترات طائفية

نشر فى : الأربعاء 6 يناير 2016 - 10:30 م | آخر تحديث : الأربعاء 6 يناير 2016 - 10:30 م

مع اقتراب موعد مغادرة باراك أوباما البيت الأبيض، تزداد الحاجة إلى تقييم فترة ولايته، وربط هذا التقييم بحال العالم فى مطلع القرن الحادى والعشرين.
يحسب لباراك أوباما، أنه حقق فى حملته الانتخابية كثيرا مما وعد به على صعيد السياسة الخارجية. كان أهم وعوده وعد سحب القوات الأمريكية من الخارج، وبالتحديد من أفغانستان والعراق، وعد أيضا بوقف تجاوزات معينة، مثل التعذيب وفرض إرادة أمريكا، باستخدام أدوات القوة والاحتلال والتدخل بالعنف فى شئون الدول الأخرى.
نجح أوباما بالفعل فى سحب معظم قواته من أفغانستان والعراق، واستبدل أساليب القوة والاحتلال والتدخل بالعنف بأساليب دبلوماسية وإقامة شبكات من اتفاقات التجارة مع الدول الأخرى، وتشجيع عقد تحالفات واتفاقات للأمن المتبادل والتدريبات المشتركة. استطاع أيضا تطوير دور أمريكا فى حفظ الأمن الدولى، وحماية مصالحها ومصالح الغرب العسكرية فى الخارج باستخدام أوفر ومكثف للقوة الجوية والعمليات الخاصة والطائرات بدون طيار. وبالفعل انخفض بشكل ملحوظ حجم الخسائر البشرية فى القوات المسلحة الأمريكية عن خسائر أى مرحلة فى السنوات الأخيرة من النشاط العسكرى الأمريكى فى الخارج.
***
على صعيد آخر، لا يمكن إنكار نجاح أوباما فى إنهاء التأزم الدائم فى علاقات أمريكا بدول معينة فى الخارج. نجحت دبلوماسيته فى تحويل مسار التوتر فى العلاقات الإيرانية الأمريكية، وحل العقدة التى بدأت بأزمة الرهائن، وفشل التدخل العسكرى الأمريكى. ولا شك أن التاريخ الدبلوماسى لن يغفل الإشادة بصبر ودأب الدبلوماسية الأمريكية على امتداد شهور عديدة لتحقيق تسوية معقولة بين الولايات المتحدة والتجمع الدولى من جهة وإيران من جهة أخرى. كذلك يصعب تجاهل إصرار الرئيس الأمريكى على فتح أبواب لعلاقة جديدة مع بورما، التى خضعت لحكم عسكرى طويل الأمد، وأقامت علاقات متينة مع الصين على حساب العالم الخارجى. كان انفتاح بورما خطوة لها مغزاها فى تنفيذ برنامج أوباما الخاص بتحويل الاهتمام الاستراتيجى لأمريكا فى اتجاه آسيا. يحسب لأوباما كذلك أنه أفلح فيما فشل فيه رؤساء أمريكا، على امتداد عقود عديدة وهو استعادة العلاقات الطبيعية مع كوبا. بهذا الإنجاز وحده استطاع أن يستعيد لأمريكا كثيرا من ما فقدته من مكانتها وهيبتها فى قارة أمريكا اللاتينية، وتفادى احتمالا قويا بأن يأتى يوم تتخذ فيه منظمة الدول الأمريكية قرارا، بوقف عضوية الولايات المتحدة أو فرض عقوبات عليها. هذا الاحتمال كان مطروحا بشكل أو بآخر فى المؤتمرات الأخيرة لقمة الأمريكتين.
***
هناك مؤشرات على أن التعذيب لم يعد يمارس على نطاق واسع فى معسكرات الاعتقال الأمريكية، وأن عمليات التخريب التى تمارسها أجهزة الاستخبارات الأمريكية قد تقلصت، إلا أن وقائع الحال والتاريخ تشهد على أن هذه الأمور لا يمكن التأكد منها قبل مرور سنوات عديدة. نحن نعرف الآن عن أمور ارتكبتها هذه الأجهزة لم نعلم عنها شيئا فى وقت وقوعها. الأمثلة كثيرة. ففى عام ١٩٥١، قرر الرئيس هارى ترومان، تسليح ١٢.٠٠٠ متمرد من قوات الصين الوطنية لغزو الصين انطلاقا من شمال بورما. أثمر قرار ترومان كارثة رهيبة دفعت بورما ثمنها غاليا من حكم عسكرى شديد القمع والتخلف الفكرى سياسيا واجتماعيا. استمر أربعين عاما، وأسفر عن علاقة ثنائية فريدة بين الصين وبورما بعيدا عن أعين السياسة الدولية. لم يبدأ الوضع فى بورما فى التغير إلا عندما وصلت هيلارى كلينتون إلى رانجون، ولحق بها الرئيس أوباما بنفسه فى عام ٢٠١٢.
نذكر أيضا أن الولايات المتحدة ارتكبت فى عهد الرئيس أيزنهاور نحو ١٧٠ عملية تخريب استخباراتية فى ٤٨ دولة، اثنتان من هذه العمليات تسببتا فى وقوع ضرر جسيم لسمعة أمريكا ومصالحها. ففى عام ١٩٥٣، قرر أيزنهاور تغيير النظام فى إيران وعزل مصدق رئيس الوزراء، وقام بتدريب شرطة سياسية «السافاك» كجهاز قمع واستبداد وجاء بالشاه صغيرا إلى الحكم، فارضا عليه الوصاية الأمريكية. نعرف الآن أن هذا القرار أفرز مشاعر معادية لأمريكا فى كل أنحاء الشرق الأوسط، وفى النهاية نشبت ثورة فى عام ١٩٧٩ أطاحت بالشاه وبمصالح أمريكا فى إيران، واستهلكت ٣٥ عاما من النزاع والتوتر بين أمريكا وإيران. نذكر كذلك أن أيزنهاور فى عام ١٩٦٠ كلف وكالة الاستخبارات الأمريكية، تدريب بعض الهواة الكوبين وعددهم ألف شخص على غزو كوبا من البحر. وقد ورث الرئيس جون كيندى هذا القرار المتهور، الذى أطال فى عمر قطيعة بين البلدين استمرت ٥٥ عاما.
نعرف أيضا أن الولايات المتحدة فى عهد أوباما لم تتوقف عن التدخل عن طريق استخباراتها وعملياتها الخاصة فى شئون الدول الأخرى، ولكننا لم نتوصل بالتأكيد إلى ما يثبت أن هذا التدخل يحدث بالكثافة التى كان يحدث بها خلال عهود سالفة على عهد أوباما. لا أحد يستبعد أن يأتى يوم تتكشف فيه وقائع ارتكبها أوباما، ولم يتح لنا أن نطلع عليها.
***
يبقى لنا ونحن نسعى لتقييم عهد أوباما وحصر إنجازاته وإخفاقاته فى نواحى الدبلوماسية والأمن، أن نتوقف قليلا عند التحولات الاستراتيجية العظمى التى وقعت فى عهد أوباما، بتدخل منه وقرار أو أو نتيجة تطورات دولية أشمل وأعمق. أعنى تحديدا المنافسة التاريخية الجارية حاليا بين نظريتين فى استراتيجية توازن القوى فى النظام الدولى. نظرية منهما تقوم على فكرة قديمة، عادت إلى السطح بقوة، وهى فكرة السير ماكيندر عن الاعتماد الاستراتيجى على كتلة «أرضية» شاسعة ممتدة بتواصل لا ينقطع من أوروبا غربا إلى الصين شرقا أو بالعكس. نعرف أنه فى مطلع القرن العشرين كان المركز المؤهل لتنفيذ هذا الحلم أو تلك الاستراتيجية هو أوروبا، بينما فى مطلع القرن الحادى والعشرين، نرى الصين وقد اضطلعت بلعب دور القيادة وطرحت آسيا مركزا لها. السبيل لتحقيق هذا الحلم أو هذه الاستراتيجية، هو إيجاد شبكة طرق برية تربط أجزاء هذه المساحة الشاسعة من الأرض الممتدة من شواطئ المحيط الهادى شرقا إلى شواطئ المحيط الأطلسى غربا، وتقيم سوقا واحدة وروابط أمنية وتعاون وثيق. هذه الشبكة لا تخرج عن كونها تطويرا لطريق الحرير وتحديثا لاستراتيجية التحكم فى العالم من خلال السيطرة على هذه الكتلة الأرضية الشاسعة.
***
على الناحية الأخرى، وجدنا الرئيس أوباما يشير فى خطاب ألقاه فى البرلمان الأسترالى فى عام ٢٠١١، إلى أن أمريكا بعد حربين فى أفغانستان والعراق، عادت تنتبه إلى الإمكانات الهائلة فى اقليم «آسيا والباسيفيكى»، باعتباره ـ حسب كلامه ـ الإقليم الأسرع نموا والممثل لأكثر من نصف الاقتصاد العالمى. هكذا بدت ملامح الاستراتيجية الثانية، استراتيجية الإحاطة من البحار والمحيطات بهذه الجزيرة الأرضية الشاسعة المساحة، المسماة صينيا وروسيا وأوروبيا بأوراسيا. إذا كانت الصين وروسيا سوف تشيدان استراتيجيتهما للقرن الحادى والعشرين، استنادا إلى هذه الكتلة الأرضية، فأمريكا سوف تسعى من جانبها لإقامة سلاسل من الاتفاقات التجارية المتعددة الأطراف والأحلاف والمعاهدات الأمنية والسياسية على امتداد البحار والمحيطات التى تطل عليها شواطئ أوراسيا. لا جدال فى أن السباق بين الاستراتيجيتين قائم ومتجدد وكان يمكن أن تحقق أمريكا تقدما أسرع فى تنفيذ قرارها التحول نحو آسيا، لولا أن عاد الشرق الأوسط يلعب دوره المفضل فى الإمساك بالدول العظمى حتى لا تفلت منه نحو الاهتمام بأقاليم أخرى.
الواضح لنا الآن هو أن المشروع الأوراسى يتقدم بخطى حثيثة، بينما يتعطل، بسبب الشرق الأوسط، المشروع الآسيوى الباسيفيكى الذى يعتنقه الرئيس أوباما.
المثير للانتباه والمقلق للغاية، هو أنه بينما ينشغل العالم بتوازن استراتيجى للقرن الحادى العشرين، مازلنا فى الشرق الأوسط والعالم الإسلامى، نلتهى بنزاعات وحروب طائفية مدمرة للثروات ومحبطة للشعوب.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي