تحل على الوطن الذكرى الثالثة لثورة يناير ضمن ظروف وسياقات فارقة تؤكد أن هذه الثورة تتعرض لمحاولات تشويه ومحاصرة من ناحية، وبين استعادة ومراجعة من ناحية أخرى، ثورة مثلت فى واقعها الممتد كطاقة ثورية عملا عظيما حمل منظومة من القيم والأهداف، وحزمة من المكتسبات التى تعبر عن جوهر آمال ومستقبل هذا الوطن، ثورة أطلق شرارتها الشباب لصناعة مستقبل هذا الوطن من الناحية السياسية والمجتمعية والتنموية والحضارية لترسم بذلك نموذجا من الثورات الشعبية اتسم بقدر من الفرادة من خلال عمل اتسم بالسلمية، وأثبتت هذه الثورة ضمن ما أثبتت أن هذا الشعب بإرادته وقدرته بإمكاناته وعظمته صار رقما صعبا فى المعادلة السياسية لا يمكن تجاوزه بعد أن كسر حاجز الخوف، وقرر أن يكون له رأى فى صياغة مستقبل وطنه، وأرسل لكل القوى فى الداخل والخارج أنه قادر على تحقيق أهدافه وعلى التمكين لكل ما يؤدى إلى صياغة مستقبله، وبناء مسار نمائه وعمرانه.
وبدا الشباب الذى مثل روح هذه الثورة وشرارتها شاهدا على أن هذه الثورة تحتاج إلى عمل كبير وفعل ممتد فى سياق يجعل من الشباب عنوانا لها؛ بعدما باتت «دولة العواجيز» و»المومياوات المحنطة» هى المتصدرة، وهو مايعنى أن التفافا جرى على تلك الثورة وعلى أهدافها خصوصا حينما يأتى من أفسدوا الماضى ليصادروا المستقبل ويهدروا الأمل، وأقسى من ذلك أن تأتى «دولة العسكر» كدولة «فاشية قمعية بوليسية» فتصادر كل أحلام الدولة المدنية الحديثة وتحاول عسكرة الدولة والمجتمع حتى النخاع، وتمكن من صياغة غير سوية لكتاب العلاقات المدنية العسكرية فيكون ذلك هدما لخيار هذه الثورة، التى حملت حلم بناء الدولة المصرية الديمقراطية الحديثة التى لا ينال منها سوى استمرار حكم العسكر إما بالمباشرة أو من وراء ستار.
<<<
وبرز النظام يحاول خطب ود الشباب بعد أن مارس الإعلام تشويها متعمدا لثورة 25 يناير سواء بالتهوين من شأنها، أو بوصفها بالمؤامرة أو بمحاولة تشويه رموز هذه الثورة من كل طريق واعتقال بعض أيقوناتها، بل وامتهان هذه الثورة ذاتها بالقبض على البعض بتهمة الحشد للتظاهر فى الخامس والعشرين من يناير، ومن العجيب أنهم يريدون أن يشوهوا هذا اليوم، إنها المحاولات التى تحاول التلبيس على هذه الثورة ضمن عملية خداع كبرى لم تعد تنطلى على شباب هذه الثورة الذين رأوا أن جوهرها يُمتهن، وأن قيمها تُنتهك، وأن أهدافها يُلتف عليها، وأن مطالبها تُحاصر، وأن رموزها تُسجن وتُطارد.
هذه اللحظات الفارقة مثلت حالة ناضجة من وعى أبناء الثورة بها ومن إدراكهم أن الخطر لم يعد يهدد الثورة فقط وإنما الوطن الذى صار مهددا فى كيانه بكل خطر، ومن ثم صار لهؤلاء قناعة واضحة «أن إنقاذ الثورة هو إنقاذ للوطن، وأن إنقاذ الوطن هو إنقاذ للثورة» خاصة حينما تجمعت مسالك الثورة المضادة لتتخذ أشكالا متعددة لمواجهة هذه الثورة ومحاولة طمسها وهدم كيانها، مدعين أن الثورة لم تُحدث إلا تفكيكا أو حالة من السيولة أو مشروعا للفوضى.
<<<
ومن العلامات الكاشفة لنضج هذه الثورة أن بعض القوى الفاعلة التى شاركت فيها قد تحدثت فى نفس واحد «كلنا أخطأنا فى حق هذه الثورة»، «كلنا مدينون باعتذار لكل قيم هذه الثورة» وبدت هذه الاعتذارات التى أتت من قوى كحركة السادس من أبريل، والإخوان المسلمين، وطلابها، وحزب الوسط، وكذلك بعض إشارات فى بيانات للاشتراكيين الثوريين لتؤكد أن هذه الثورة تحتاج منا إدراكا للمخاطر التى تحيق بها، وعملا أفضل لحمايتها واستعادة كل المسالك التى تؤدى إلى فاعليتها فى بناء الوطن والمستقبل؛ شكلت بيانات الاعتذار تلك وفى هذا التوقيت قبيل أن تحل هذه الذكرى حالة من المراجعة الذاتية كان من الصعب ورودها فى ذلك التوقيت فإذا بها تصدر فى وقت متزامن ومن دون اتفاق لتعبر عن حالة من الاعتراف بحق هذه الثورة علينا، وبالاعتذار لهذا الشعب الذى يجب أن يكون فى آماله وتحقيق متطلباته والاستجابة لتحدياته وسد ضروراته أمر لابد أن يكون مناط تفكيرنا ومحط عملنا؛ ومن ثم فإن البعض الذى يحاول أن يغمز ويلمز بهذه الاعتذارات أو يتحفظ عليها أو يهون من آثارها فإنه يحاول أن يثير الغبار من جديد لإحداث ما من شأنه يفكك هذه اللحمة الثورية التى كانت أهم سمات ثورة يناير فى ميادينها الفاضلة والتى عبرت عن شرارة ثورة شباب، وعن احتضان شعب أبى لها.
<<<
إن الأمر الذى تؤكده هذه الثورة أنه ليس فى طاقة أى فصيل وحده أن يتفرد بحكم هذا الوطن؛ الوطن أكبر من أى فصيل، ومصالحه العليا والاستراتيجية يجب أن يحملها الجميع، وتحدياته يجب أن يواجهها الكل بلا استثناء؛ إن منطق هذا الوطن إذا اجتمعت علينا المشكلات فلنجتمع نحن لمواجهتها فنصير بذلك مدخلا للحل لا أداة فى تراكم هذه الأزمة أو عملية التأزيم، كما أنه ليس فى مقدور أى مؤسسة حتى ولو كانت تحتكر القوة (المؤسسة الأمنية أو العسكرية) أن تحكم هذا الشعب أو جزءا منه رغما عن إرادته أو استخفافا بقدرته.
إن هذا الاجتماع لقوى الثورة فى محاولة لاستعادتها إنما يؤكد أن الفترات الانتقالية التى مرت عليها لا يمكن أن تكلل بنجاح لأنها تراوحت بأن تكون فترات التفافية أو انتقامية، والوطن فى حاجة لفترة انتقالية سوية تقوم على قاعدة «وطن للجميع ومن الجميع وبالجميع»؛ يعبر عن معان أساسية تحمل قدرة هذه الثورة على أن تُمكّن لاستراتيجية للعدالة الانتقالية تقوم على قاعدة من القصاص للشهداء والاقتصاص من كل من أساء إلى هذا المجتمع أو أفسد فيه، وأن بناء دولة عصرية حديثة لا يعنى إلا عودة العسكر إلى ثكناته والقيام بأدواره ووظائفه، وبناء مستقبل سياسى يقوم على قاعدة من العدل والرشد والفاعلية، وتمكين الشباب تمكينا حقيقيا من إنماء الوطن والقرار فيه، هنا فقط تُستعاد ثورة يناير التى تؤكد أن ثورة مضادة لا يمكن أن تعيد عقارب الساعة إلى ما قبل الخامس والعشرين من يناير، إنها النقطة الفاصلة الحقيقية التى علينا جميعا أن نستعيدها ونتمسك بها لمستقبل الثورة وبناء الوطن.