من نافلة القول أن نؤكد أن صناعة الدساتير فى العملية السياسية تعد أهم المسارات التى يجب أن نتوقف عندها ونتبصر تأثيراتها ومآلاتها، والدستور بما هو وثيقة تعاقد اجتماعى وقانونى وسياسى لابد وأن تقوم على قاعدة من التوافق لا يشوبها شائبة إكراه، أو شائبة استبعاد، أو أى أمر يتعلق بالغش والتدليس، هذا شأن التعاقد الذى يجب أن يكون خاليا من بواعث البطلان، ومداخل الفساد، فضلا عن ذلك لابد أن يحتوى الدستور كل ما يتعلق بضبط إطار العلاقات بين مؤسسات الدولة وسلطاتها، وكذا العلاقة بين الدولة والمجتمع والمبادئ التأسيسية التى يقوم عليها، ومناط الحقوق الكلية، والحريات الأساسية والتأسيسية التى تربط المواطن بالوطن. وهنا يجب أن نتوقف بتدبر أمام هذه الوثيقة التى تسمى بـ«مسودة دستور 2013»، لنرى التساؤل الأساسى الذى يتعلق بذلك: هل نحن أمام تعديلات دستورية على ما قيل أنه الدستور المعطل (دستور 2012)، أم أننا أمام وثيقة دستورية جديدة؟ وذلك بعيدا عما يروج من قبل القائمين عليها من أنها تعديلات دستورية، فإن ما تم تغييره من مواد الدستور المعطل، وصياغة ديباجة جديدة يؤكد أننا أمام معضلة أخلاقية ابتداء.
•••
ومنذ البداية فإن هذا الدستور يملك حالة تناقض ليست بين محتوياته فحسب، ولكن فيما يتعلق بجهة إصداره، بحيث لا يمكننا أن نغفل أن من دعا للاستفتاء على الوثيقة الجديدة «الرئيس المؤقت المعين» هو من عطل الدستور الذى تم اقراره بموافقة شعبية معتبرة، ومن المفارقات العجيبة أنه تم تعيينه بناء على ذلك الدستور المعطل، هذا التناقض الفادح فى هذا المقام يشير إلى عدم المنطقية فى جدية الحالة الدستورية التى ولدت للأسف من رحم الحالة الانقلابية.
أخطر من ذلك، أن ذات الشخص الذى نتحدث عنه «الرئيس الموقت المعين» هو من أحيل إليه فى بعض المواد الفصل فى شكل النظام السياسى، والآليات التى تتعلق به من الانتخابات، ومباشرة الحقوق السياسية، وهو أمر خطير أن تحال مثل تلك القضايا المفصلية إلى رئيس «مؤقت» معين لا يستند إلى أى قاعدة انتخابية، فهو بذلك من سيحدد مسار العملية السياسية، وطبيعة النظام السياسى المصرى بعد فشل لجنة الخمسين على الاتفاق حول تلك الأمور فى المرحلة القادمة.
وكذلك فإن هذا الدستور قد حمل مسخا ونسخا لبعض قضايا الهوية تحت دعوى أنه يقدم الطبعة المدنية، وفى حقيقة الأمر فإنه لم يحفظ طابع الهوية الأساسى، كما أنه لم يحفظ طابع مدنية الدولة، حتى على الرغم من النص على ذلك فى الديباجة «حكومتها مدنية»، ووفقا لبعض التصريحات خاصة من هؤلاء الذين أسهموا فى هذا الدستور من حزب النور «السلفي» فإن هذا الدستور هو «دستور الميتة» الذى يضطر البعض لقبوله من هذا المدخل، وهو أمر شديد الخطورة أن يمرر ذلك الدستور فى ظل هذا المناخ الاستقطابى المفتقد لكل المداخل التى تتعلق بأصول التعاقدية والتوافقية.
•••
كذلك فإن حديث البعض عن أن هذا الدستور يمثل نقلة نوعية فى الحقوق والحريات الأساسية هو أمر محل شك كبير، فبينما كانوا يكتبون تلك المواد كانت انتهاكات الكرامة الإنسانية وإزهاق الأرواح البشرية وحملات الاعتقالات العشوائية تتم على باب القاعة التى يجلسون فيها، كما تجرى المحاكمات الانتقائية والانتقامية على مرأى ومسمع منهم، وهو أمر يجعلنا نؤكد أن القضية ليست فى تضمين الدستور مثل هذه المواد التى يمكن أن تكون من قبيل مواد الزينة، أو الديكور فى البناء الدستورى، أو من فائض الكلام الذى تنقضه الأفعال وتئده السياسات والممارسات، فمواد الدستور ليست نصوصا وكلمات ولكنها قيم أساسية ومبادئ كلية وسياسات فعلية وآليات حقيقية لحفظ الحقوق، أما التعامل الديكورى الذى يتم فى هذا الشأن فهو لا يعنى إلا غطاء كثيفا وبمثابة شهادة زور على كل ما يحدث على أرض الواقع من انتهاكات فادحة ومن سياسات فاجعة.
كذلك فإن هذا الدستور على هذا النحو يعبر عن حالة مواتية لمسالك ومسارب الفساد، ذلك أن هذا الدستور وعن عمد قد ألغى المادة التى تشير إلى ضرورة إنشاء مفوضية عليا لمكافحة الفساد فى دستور 2012، وهو أمر لا نجد له من تفسير، ومن المؤكد أن هذا الدستور لم ترد فيه كلمة واحدة تشير إلى مكافحة الفساد المنتشر فى شبكات المصالح والتحالفات بطول المجتمع وعرض الدولة، وأخطر من ذلك أن تأتى بعض المؤسسات المتنفذة لتطالب كل منها فى ذلك الدستور بمزايا إضافية من مثل جعل ميزانيتها رقما واحدا فى الموازنة العامة للدولة وهو ما يحجب المساءلة والمتابعة والحساب، ويؤشر على أن ذلك ليس إلا مشروع فساد فى ظل ترضيات وشعوبية المؤسسات، والحفاظ على مصالحها الآنية والأنانية.
وها هى المواد التى تتعلق بالحريات وبالحقوق تنسخ نسخا، وتنقض نقضا بحيث تهدم المواد بعضها بعضا خاصة تلك المادة التى تشير إلى الفضاء المعلوماتى حينما تربطها بمقتضيات الأمن القومى التى من الممكن توظيفها واستغلالها لتنسف كل ما يتعلق بالحقوق الأساسية والحريات التأسيسية.
•••
وغاية الأمر فى هذا المقام أن هذا الدستور بكل ما يحمله من معان أو مبان، إنما يعبر عن تلك الحالة الانقلابية، التى هى بالضرورة تتخذ مسارا إكراهيا واستبعاديا، ولا تعبر عن حالة توافقية أو تعاقدية، يغذى كل ذلك، حالات صناعة الكراهية، وسرطان الحالة الاستقطابية التى تمكنت فى كثير من أرجاء الخطاب والسلوك فى المجتمع المصرى، ويجسد كل تلك الانتقادات التى وُجهت إلى دستور 2012، بحيث ارتكبوا ما كانوا ينتقدونه قولا وفعلا، وصاغوا دستورا لا يكافئ تحديات وطن، أو مصالح شعب، أو آمال وأهداف ثورة، أو بناء مستقبل سياسى لوطن جديد.